«الراي» قلّبتْ صفحاتٍ من «السجلّ الأسود» لنصف قرن من «شعب واحد في دولتين»
لبنان تحت سطوة «الأسديْن»... حكاية فظائع «الانتهاك الأخوي»
أن يرحل الرئيس بشار الأسد مع صلاة الفجر عند المسيحيين والمسلمين، لهو خبر أكبر من السياسة بالنسبة إلى اللبنانيين الذين عاشوا تحت ظلّ عائلة الأسد، من الأب الى الابن الذي تولّى الرئاسة بعده، من دون أن يكون هو الرئيس المختار للوراثة.وقبل أن يَدخل لبنان عامه الخمسين للحرب الأهلية التي انفجرتْ في ابريل 1975، وعلى وهج انتهاء حربه مع اسرائيل بهدنةٍ موقتة، شهد اللبنانيون انتهاءَ حُكْمِ الأسديْن.حافظ الأسد، بشار الأسد... صورٌ مطبوعةٌ في ذاكرة يوميات اللبنانيين، على طريق المطار وعند المراكز السورية في البقاع وبيروت والشمال، ومثلها أرتالُ الشاحنات السورية تدخل لبنان لمراتٍ عدة وتَخرج منه مرة أخيرة عام 2005. وقبْلها وفاةُ الأسد الأب التي بالكاد صدّق اللبنانيون أنها يمكن أن تحصل، فثمة شخصيات اعتقدوا أنها ستبقى متحكّمة بهم لعقود طويلة ولن يقووا على الخروج من تحت سلطتها.8 ديسمبر 2024... هي الفرحة اللبنانية قبل أن تكون الفرحة السورية. فأن تُطوى صفحةُ النظام الذي كان مسؤولاً عما وصل اليه لبنان وعن انهياره الأمني والعسكري والاقتصادي وظلّ مُصِرّاً على أن يتحكّم به، ليس مجرد حلم ليلة صيف. بل أصبح واقعاً لم يستوعب اللبنانيون بعد تأثيرَه المباشر.سقوطُ رؤساء، كلّها أحداث تقف عند حدود الخبر السياسي. ولكن مع الأسد، هناك تاريخ كامل متنوّع: وحدةُ المسار والمصير، علاقاتٌ شخصية، وتَشابُكُ الحربِ والسِلم، وعمليات الاغتيال، والزيارات الدينية لدمشق، ومحسوبيات النظام السوري والشخصيات التي استفادتْ منه وتحوّلت أبواقاً إعلامية وسياسية ناطقة باسمه.هي سورية المزيج من المأكولات والحلويات الشامية، والرمان والغنم السوري والقطنيات السورية، وطاولاتُ الصفد المنحوتة بأيادي الحرفيين، واللهجة الشامية، وشواطىء اللاذقية وقلعة تدمر الصحراوية. هي كل شيء معجون بتاريخ سايكس بيكو الذي ينتهي تدريجاً، وبأغاني فيروز عن الشام، وبالقدود الحلبية لصباح فخري. لكنها في الوقت نفسه تحوّلت على يد نظام الأسد السيفَ المصلت على رقاب اللبنانيين.منهم مَن نسى، ومنهم مَن تناسى، ومنهم لا تزال الذكرياتُ عن الحقبة السورية ماثلة أمام عيونهم وفي قلوبهم... عن الشاحناتِ العتيقة ورائحة المازوت والسلاح الخارج من أيدي الجنود الذين يَخدمون خدمتهم العسكرية الإلزامية. عن الحواجز التي لا تزال في الذاكرة، من المدفون الى بيروت وبلدات الشمال والبقاع، عن شهداء أو مفقودين من الرهبانية الانطونية في بيت مري في 13 اكتوبر 1990 وعن الضباط والجنود اللبنانيين الذي سقطوا يومها. عن مئات المفقودين وعن القتلى بالعشرات في الأقبية، عن أساليب التعذيب وعن رواياتٍ لا تشبه روايات حنا مينة ولا أخبار مسلسلات شامية، بل روايات الموت والتجويع والقتل العشوائي والاذلال اليومي للبنانيين بكل طوائفهم، خطيئتهم أنهم كانوا ضد الاحتلال السوري بكل وجوهه.حلم اللبنانين أن يرحل الأسد الآتي الى الرئاسة بعد مقتل شقيقه باسل والذي أنهى برحيله عن سورية حُكْمَ العائلة والطائفة التي دفعت ثمن وصوله وممارسات شقيقه ماهر الأسد، وحُكْمَ حزب البعث، وأعاد إلى مَن شهد الأسد الأب وهو يخطب قائلاً عن لبنان «نحن شعب واحد في دولتين» ذكرياتِ 50 عاماً عصفت بلبنان تحت حكم التدخل السوري والوجود السوري والاحتلال السوري والطائف السوري والحرب السورية.تجمعاتُ تحكي عن «الأعجوبة» التي تمّت بخروج عائلة الأسد بعد حُكْمٍ استمر عقوداً عانى خلالها لبنان الأمرّيْن.. رصاصُ الابتهاج والأفراح لم يقتصر على المعارضين السوريين فحسب، بل كان احتفالَ «الانتقام مع مفعول رجعي» لسنوات القهر واغتيال زعامات حُمِّل الأسد الأب والابن مسؤوليتها، من المفتي حسن خالد الى النائب ناظم القادري وصولاً الى الرئيس رفيق الحريري وشخصيات قوى 14 آذار. الابتهاجُ بأن يَسقط الأسد - ومعه العائلة التي ارتكبت فظائع في حق سورية ولبنان - لا يصيب سورية الأمويين، وسورية الثقافة وتدمر وقلعة حمص ودمشق القديمة وأحياء باب توما وأسواق الحميدية، ولا جامع الأمويين ومقام السيدة زينب ومار تقلا ومعلولا وسيدة صيدنايا، ولا فنادق دمشق العريقة حيث نزل اللبنانيون سياسيون وفنانون ومثقفون، أو حفلات استبدلت بيروت بدمشق يوم كان حكم الأسد يستفيد من فورة سورية فيما لبنان يقع تحت الانهيار الاقتصادي والحروب.هو احتفالُ النصر على ممارسات «الأسديْن»، على المجازر التي ارتُكبت وعمليات توقيف مواطنين عند الحواجز واختفاء أثَرهم، وعلى المداهمات التي كانت تتم في وضح النهار واغتيال الشخصيات وفرْض الخوات، وعلى هدير الطائرات تقصف في 13 اكتوبر 1990 قصر بعبدا ومقر وزارة الدفاع، وعمليات التصفيات الجسدية في أحياء بيروت وطرابلس.... كل الطوائف اللبنانية عانت من سورية – الأسد بطريقة أو بأخرى. طرابلس والمعتقلون الذين غُيبوا في سجون «البعث»، الدورز ومقتل الزعيم كمال جنبلاط، والمسيحيون واغتيال قادتهم ومعاندتهم الاحتلال السوري، والشيعة الذين تفاوتت علاقة النظام السوري معهم إلى ان انتهتْ الى ما انتهت اليه.يوم دخل الجيش السوري لبنان عام 1976، تحت غطاء قوات الردع العربية، استقبلَه المسيحيون بالترحاب. عند مفترقات الطرق كان السوريون يدخلون «المناطق الشرقية» على وقع الزغاريد ونثر الأرز والورود، وتَعامل المسيحيون مع الجيش السوري على أنه المُنْقذ من الحرب التي تدور بينهم وبين الفلسطينيين ومن خلفهم الحركة الوطنية. غنّوا له أغان شعبية، قبل أن تتحول العلاقة بين «الجبهة اللبنانية» وسورية إلى خصومة حادة قُصفت معها «الشرقية» بوابل القذائف المدفعية، وخُطف أبناؤها وقُتلوا بسيارات مفخّخة وبحربٍ دامية لم تَرحم. وبين الحربين نكّل السوريون بالحركة الوطنية، واغتيل كمال جنبلاط ودُمرت طرابلس واغتيل شبابُها السنّة الذين وَقفوا ضد الجيش السوري وأهمهم خليل عكاوي. واغتيلت قيادات بيروتية بصمتٍ وحَكَمَ السوريون من فندق البوريفاج كل بيروت ومن عنجر كل لبنان. ذاكرة اللبنانيين مشبعة بأخبار الجيش السوري، مَن عاداه ومَن أذله السوريون عند الحواجز وفي أقبية المراكز، ومَن خُطف واختفى في سجون صيدنايا والمزة ومَن فرضت عليه خوات. وأخبار مَن رافق الحرب منذ عام 1975، عمّن تولى القيادة في بيروت وطرابلس وأصبح حاكما بأمره، وفي عنجر حيث تحولت أسماء غازي كنعان ورستم غزاله مفردات يومية في الحياة السياسية، وضباط الأحياء والخوات عند المرافىء والمعابر. ولأن الانتهازيين بين اللبنانيين عرفوا من أين تؤكل الكتف، سايرتْ قيادات منهم النظام السوري، وسميت شوارع بأسماء الأسد، وأقيمت لشخصياتٍ من النظام حفلاتُ تكريمٍ وُرفعت تماثيل ونصب تذكارية، ونُحرت الخراف ورقصت الدبكة احتفاءً بهم، ونُظمت لهم مآدب وقُدمت آلاف الهدايا الفاخرة، ففرضوا خوات لا تحصى على كل المرافق الحيوية، من المرافىء الى المصارف والى المصانع والشركات... كل المسؤولين السوريين استفادوا من لبنان واستفادت طبقة سياسية من حلفاء دمشق مِن حُكْمِ عائلة الأسد لتُضاعِفَ ثرواتها وتزيد من نفوذها السياسي والمالي. حين تسلّم الأسد الابن الرئاسة، ظنّ لبنان أن مرحلة جديدة «ديموقراطية» ستعيشها سورية ومعها لبنان الذي غرق في متاهة الإعلام الغربي الذي حاول أن يعطي للأسد صورة العائلة الديموقراطية ذات الثقافة الغربية. وصارت صورة الأسد الصورة الحديثة لسورية الحديثة، بعد سنوات من «ديكتاتورية الأب». ولكن مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري، انقلبتْ الصورة الى سودوية. وبات الابنُ نسخةً عن الأب. وفي 8 ديسمبر، يوم «الهروب الكبير» للأسد، حين كانت الصبحيات والرسائل الهاتفية الكثيفة عن سقوطه كان القاسم المشترك واحد، استعادة صورة داني شمعون وأطفاله مضرجين بالدماء، جبران تويني، وليد عيدو، بيار الجميل، سمير قصير، جورج حاوي وجميع شهداء «ثورة الأرز». لم يعد مهماً مَن ارتكب الاغتيال ومَن نفذه ولكن مَن حَكَمَ لبنان طوال أعوام مديدة وأرسى نظاماً أمنياً متكاملاً.وصحيح أن سورية خرجت من لبنان رسمياً، لكن تدخلاتها بقيت حاضرة حتى في التحايل على إقامة علاقات ديبلوماسية بين البلدين. خرج الجيش السوري ودَخَلَ آلاف النازحين السوريين. اذ جاءت حرب سورية لتضع اللبنانيين أمام خياريْن: مع الأسد ضدّ المعارضين والجماعات الإسلامية، أو معهم. وكانت سورية مجدداً سبباً لانقسام اللبنانيين، بين حزب الله الذي دَخَلَها للقتال فيها، وبين قوى 14 آذار التي وقفت الى جانب المعارضين. وتحوّلت صورةُ الأسد من ديموقراطي الى جزار امتدّت يده حتى إلى مسجدي التقوى والسلام في طرابلس (صيف 2013) حيث تمت «الإشارة بالإصبع» (قضائياً) إلى شخصيات أمنية في النظام بالضلوع في الجريمة.النازحون السوريون تحوّلوا أيضاً في لبنان سبباً إضافياً للأزمات القائمة، فأكثر من مليوني نازح أضافوا عبئاً اقتصادياً وأمنياً وسياسياً. ورحيل الاسد هو الباكورة لعودتهم المفترَضة إلى بلادهم.أن يرحل الأسد بعد خمسين عاماً من تحكّم سورية بلبنان، لم يعد حلماً، بل صار واقعاً. واللبنانيون الذين وَقَعوا في حيرةِ المفاضلة بين بقاء «الشرير الذي نعرفه» أم مجيء جماعاتٍ متطرفة قبل أن يكتشفوا وجهاً آخَر لـ أبو محمد الجولاني الذي أطلّ بـ «لوك» سياسي جديد، لم يصدّقوا بعد أن كل شيء يتغيّر في الشرق الأوسط، وأن سوريا لم تعد بالنسبة إلى مَن عاصروها هي نفسها.غاب الأسد وقبْله أسماء وشخصيات طبعتْ ذاكرةَ اللبنانيين: غازي كنعان ورستم غزالة وفاروق الشرع وعبد الحليم خدام ووليد المعلّم ومصطفى طلاس وأسماء اخرى ظلّت إلى الأمد القريب صورة عن محاولة الأسد الأب إرساء قاعدة ذهبية: شعب واحد في دولتين. لكن التاريخ لم يتوقف في 50 عاماً، وأظهرت الأحداث، التي ساهم بشار الأسد في تثبيتها عن غير قصد، أن هناك شعبين في دولتين. وسيبقيان كذلك. وبقي لبنان ورحل الأسد.