وفيق صفا أطلّ من الضاحية وأحد الضحايا... حياً يُرزق

العائدون إلى «الخراب الكبير»... رايات مرفوعة فوق قلوب مكسورة

تصغير
تكبير

... الرابعة من فجر أمس كانت «الساعة صفر». كأنه فَجْرٌ آخَر لا يشبه صباحاتِ أكثر من شهرين من الكوابيس... الجميع أمضوا الليلةَ المجنونة في سجنٍ اسمه التلفزيون، يتابعون حَرْفاً حَرْفاً مراسم الوداع الموعود للحرب. شاهَدوا بنيامين نتنياهو يُدْلي بـ «فذلكة» وقْف النار، دققوا في كلام جو بايدن وفي تعابير ايمانويل ماكرون، واستمعوا جيداً للبيان الأميركي – الفرنسي، وربما صفّقوا كثيراً للجملة السحرية «وقْف إطلاق النار سيدخل حيّز التنفيذ في الرابعة فجراً بتوقيت بيروت».

النازحون المتلهفون للقاء بيوتهم وأرضهم لم ينتظروا ولم يقيموا وزناً للتحذيرات، وبدأت أرتال العودة تتحرك يرافقها إطلاق نار كثيف في الهواء ابتهاجاً بنصرٍ موهوم أو فرَحاً بانتهاء حربٍ اعتقدوا أنها ربما لن تنتهي...

طوابير العودة عكستْ كل التناقضات اللبنانية بعمقها وحدّتها. ففيما كان أهل بيروت ينزحون في الليلة الأخيرة المشؤومة بالآلاف عن مدينتهم ويفترشون باحةَ مستشفى الجامعة الأميركية والكورنيش البحري ويملأون بسياراتهم طرق الخروج من العاصمة هلعاً وخوفاً من استهدافات تم التحذير منها في أحياء بيروتية عدة، كان النازحون من الضاحية والجنوب يَحملون قلوبَهم على الأكفّ ترقباً لإعلان وقف النار وتهيئاً للعودة في حال إقراره رغم أهوال ما شهدته الضاحية والجنوب في اليوم والليلة الأخيريْن من الحرب...

منذ الرابعة فجراً، بدأ يُسمع من أحياء الضاحية الجنوبية إطلاقُ نار كثيف من أسلحة فردية، رشاشات وأكثر، ابتهاجاً بانتهاء الحرب رغم الدخان الذي لا يزال يتصاعد من أماكن قُصفت بالأمس ودُمّرت وسُويت بالأرض. ومع ساعات الصباح الأولى بدأت طلائع سيارات العائدين بالوصول الى مداخل الضاحية تواكبها أرتال من الدراجات النارية التي طالما ميّزت المنطقة وصارت إحدى علاماتها الفارقة.

عند منطقة مار مخايل، وهي المدخل الشرقي الرئيسي للضاحية، زحمةُ سيارات تنتظر دخول المنطقة ومعها عجقة زمامير وأناشيد وأعلام صفر تُوزَّع على العائدين في احتفاليةٍ بدت غريبة وسط الدمار الذي لفّ المنطقة. صورُ عملاقة لأمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله وبعض القادة تحملها دراجات نارية وتجوب بها الشوارع المثقلة بركام المباني. أبعد بقليل وفي منطقة الغبيري المنكوبة التي شهدت في الأسبوع الأخير غاراتٍ متتاليةً، ظهر الحاج وفيق صفا رئيس وحدة الارتباط والتنسيق في حزب الله... رُصد في روضة الشهيدين حيث توجد مقابر شهداء الحزب. وبدا صفا في اول ظهورٍ له وهو يبتسم ويتحدث مع الحاضرين وكأنه أراد بحضوره أن يقول: نحن هنا، وذلك بعد الغموض الذي لفّ مصيرَه منذ محاولة اغتياله في غارة عنيفة في محلة النويري البيروتية حيث أشيع يومها أنه في وضع حرج وبُترت ساقاه.

مشاهد سوريالية امتزج فيها الفرح والنشوة بالحزن وبعض الإنكسار. نشوة بانتصار «مزعوم» يعبّر عنها كل العائدين بفخرٍ، سرعان ما تصطدم بهول الدمار ومناظر البنايات التي تدلّت شرفاتها وتهاوت سقوفها وتكدّست أكواماً من الركام في أماكنها.

يكابر العائدون يُقْنِعون أنفسهم بالنصر - بعدما وُعدوا به لعقود طوال ـ لا يصدقون ما يشاهدونه بأمّ العين، ولا يودّون رؤية حقيقته. إحدى السيدات تقف أمام مبنى مشلّع وتتنهد قائلة: هل كان ذلك يستحق كل هذا الدمار؟ ليجيبها شاب يقف بالقرب منها: «كل انتصار يحتاج لمَن يرويه بالدم»... قناعةٌ لا يمكن لمنطقٍ سلْبها منه.

بعض مَن اختفت بيوتُهم عن الخريطة، ودُمّرت المباني التي يسكنونها رفضوا العودة. ديما التي خسرت بيتها منذ الأيام الأولى للحرب لا تريد ان تفتح جرحاً لم يلتئم. في قلبها غصة وفي عيونها دمع: «الى أين نعود، إلى كومة حجارة؟ لن تطأ قدماي المنطقة مرة أخرى، سأرحل بعيداً عن كل ما يذكّرني أنه كان لي بيت هنا ولم يَعُد له أي أثر».

كل مداخل الضاحية تشهد الزحمة ذاتها ترافقها بلا انقطاعٍ أصواتُ رصاص الابتهاج رغم كل المناشدات بوقف هذه العادة التي يمكن أن تُسْقِطَ ضحايا بقدر القصف في الضاحية ومحيطها... لجهة الحدث نزولاً صوب منطقة المريجة، السيارات تسير بصعوبة إذ رغم كون الطريق مفتوح إلا أنه يحمل آثار القصف الشديد الذي تعرّضت له المنطقة، وحاجز الجيش اللبناني هناك يوزّع على المارة منشورات تحذّر من القذائف غير المنفجرة والأجسام الغريبة.

المشاهد الحزبية ذاتها هنا وإن بشكل أقلّ...داخل السيارات عيون تتلهف لرؤية البيوت، تتلفّت يمنة ويسرة بحثاً عن معالم معروفة أو وجوه مألوفة. عند تقاطع الجاموس، أحدهم يترجّل من سيارته ويستعجل السيارات للتقدم. ما عاد يطيق الانتظار، ويود الوصول الى بيته حيث ترك القلب والذكريات. في آخِر الشارع حيث البنايات تعرّضت للقصف العنيف، تزيل امرأةٌ الزجاجَ المكسور عند أحد النوافذ فيما يقوم رجال بكنس أكوام الزجاج المكدّسة عند مدخل البناء. بلحظةٍ يستعدون لاستعادة حياتهم الطبيعية.

من جهة أخرى، الخارجون من الضاحية أعدادهم كبيرة، وكأن مَن زاروها عند ساعات الصباح الأولى باتوا متلهّفين لمغادرتها بعد كل ما عاينوه فيها من دمارٍ يصعب معه البقاء فيها. على أنوفهم يضعون الأقنعة كما في أيام الجائحة، فالروائح والانبعاثات لا تزال قوية يفضّلون تجنبها والابتعادَ عن أضرارها.

عند دوار منطقة السفارة الكويتية اي في أول الأوتوستراد المؤدي الى الجنوب زحمة سير خانقة بدأت منذ ساعات الفجر الأولى. كلهم متحمّسون للعودة الى قراهم الجنوبية. الناس في السيارات يودون لو يسابقون الوقت للوصول الى بيوت تركوها ويتلهفون للعودة إليها. يعبّرون أمام شاشات التلفزيون المختلفة عن فرحتهم وفخرهم. بالنسبة إليهم هذا الفجر يختلف عن أي فجرٍ عرفوه في الأشهر الماضية، هو فجر العودة. لسان حالهم واحد: الفرحة لا تسعنا رغم كل الدمار الذي ينتظرنا. بعض الأصوات المكبوتة تهمس: ما في بيوت نرجع إليها...

على أوتوستراد الجنوب احتفال كان يستمر منذ الفجر... زمامير سيارات تشقّ الأجواء، أناشيد تصدح من مكبرات صوت، نساء وأطفال وشبان يحملون الأعلام الصفر والخضر ويلوّحون بها عند جوانب الطريق أو في الفاصل الوسطي تقابلها صيحات فرح من داخل السيارات المحمَّلة بالفرش وبعض أغراض النزوح التي جُمعت في أكياس سوداء.

أحد الصغار رفض أن يطل برأسه من السيارة. كان غارقاً في مقعده، خائفاً لم ينظر الى وجه المراسلة التي كانت تحاول سؤاله عما إذا كان فرحاً بالعودة. يبدو وكأنه لم ينس بعد ما عاشه في الطريق المعاكس يوم النزوح الكبير، كما لم ينس الخوف المستمر الذي عايشه طوال فترة الغارات حتى نهار أمس.

على اوتوستراد الجنوب صورة لفتت الأنظار على مواقع التواصل، قسمت الى قسمين: في الأولى كهل يرفع لافتة صفراء كتب عليها: «بدكن ترجعو مرفوعين الرأس»، رفعها في ذاك الثالث و العشرين من سبتمبر يوم النزوح الكبير، فإذا بالعائدين يرفعون لافتة مشابهة كتب عليها: «قولوا للحاج رجعنا وراسنا مرفوع...» وضمّوها الى الصورة الأولى.

وفي الجنوب نفسه، فيديو مُؤثّر انتشر عبر مواقع التواصل للحظة لقاء شاب بوالدته بعدما ظنّت والعائلة أنّه سقط في المواجهات لكن والدته تفاجأت به حيّاً يُرزَق، وكذلك كانت «هدية» أفيد أن عائلة تلقّتها حين تفاجأتْ بالأب على قيد الحياة بعدما فُقد أثره واعتُبر بين الضحايا.

على مشارف الجنوب وبدءاً من مدينة صيدا تزداد زحمة السير وفق ما نقلته كاميرات محطات التلفزيون المحلية والعالمية وصولاً الى قرى كان العدو الإسرائيلي حذر من العودة إليها. الى بنت جبيل والخيام وصلوا وصوّروا ونقلوا مشاهد الدمار ورفعوا راياتٍ نصرهم.

في الصباح كان بعض الأهالي في منطقة الخردلي يناشدون الجيش اللبناني وفرق الإنقاذ رفع الأنقاض عن الطريق ليتمكنوا من عبورها والوصول الى قراهم. احد المواطنين في صيدا كان منهمكاً بتحميل أغراضه على شاحنة صغيرة واعترف بأنه لا يعرف اي شيء عن بيته في حومين الفوقا لكنه رغم ذلك عائد الى ضيعته وسيضع خيمة لو اقتضى الأمر وسيعود...أحد الأطفال يقف على أنقاض بيته متأرجحاً بين دمعة وضحكة ويقول «اشتقت لبيتي، بس بابا وعدْنا رح يرجّعه»...عيون تعاين الدمار بحزن ودمع وتتساءل: ما الهدف من وراء ذلك كله؟

كلهم متلهفون للعودة لكن في القلب أكثر من غصة على كل الضحايا الذين سقطوا، أبرياء دُفنوا تحت أنقاض منازلهم وجُبلوا مع تراب قراهم، ذكراهم لن تفارق الناجين لكن ألم فراقهم ينغص العودة...

على الأوتوستراد الساحلي من الشمال صوب بيروت مئات السيارات المحمّلة بالعائلات العائدة. هم نزحوا بعيداً بعيداً عن مناطقهم واحتضنتهم أماكن ما اعتادوا التواجد فيها ولا عرفوا أهلها، لكنهم اليوم يغادرونها وفي عيونهم نظرة مختلفة لأخوة لهم في الوطن والإنسانية: «إن علّمتنا هذه الحرب شيئاً فهي أننا كلنا اخوة واللبنانيون مهما ابتعدوا تجمعهم روح واحدة مُحِبّة... لقد شاء القدر ان نتعرف على أخوة لنا في ظروف صعبة لكننا لن ننسى وقْفتهم الى جانبنا» يقول أحد الرجال العائدين من منطقة كسروانية.

في البقاع الشرقي كما الغربي بدأت قوافل العودة. غالبية النازحين لم يبتعدوا كثيراً عن قراهم، نزحوا الى ضيع قريبة احتضنتهم. ومع باكورةِ تَساقُطِ الثلوج باتت العودة أكثر إلحاحاً إنما أكثر صعوبة وألماً. الى أي دفء يعود مَن دُمر بيته؟ صقيع الطبيعة لا يوازيه إلا صقيع البيوت التي فقدت ابناءها وصقيع القلوب التي خسرت بيوتها وصقيع واقعٍ لن يعود مطلقاً كما كان.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي