«الراي» تَحَرَّتْ عن أفولها في زمن حربٍ ولا كل الحروب

صمت فرسان الأغنية الوطنية في لبنان... ما السر؟

تصغير
تكبير

ثمة مفارقةٌ لافتة أطلّتْ من بين ركام الحرب المجنونة التي عصفت بلبنان وتسلّلتْ من خلف دخان الحرائق الهائلة... فالأغنيةُ الوطنيةُ التي غالباً ما كانت تسطع إبان حروب لبنان وأزماته، بدتْ وكأنها تَوارَتْ الآن و«تَبَخَّرَتْ» وسط صمتٍ فني غير معهود في لحظاتٍ مشابهة لِما تمرّ به «بلاد الأرز».

قبل ما يُعرف بالحرب الأهلية (1975 – 1990) وخلالها وإبان «الوقت المستقطع» على شكل سِلْمٍ أهلي، وعلى مدى الحروب الإسرائيلية المتوالية، وفي زمن اغتيال رفيق الحريري، ويوم الانفجار الهيروشيمي في مرفأ بيروت... كانت ظاهرةُ الأغنية الوطنية تَصدح في تعبيرٍ عن حب لبنان، بلحنٍ حزين أو أنشودة حماسية.

... وديع الصافي، فيروز، الأخوين رحباني، مارسيل خليفة، أحمد قعبور، إيلي شويري، زكي ناصيف، نصري شمس الدين، صباح، ماجدة الرومي، جوليا بطرس، عاصي الحلاني، ملحم زين، معين شريف، و... أجيال تلو أجيال أنشدوا لبنان في أيام العزّ وأيام المِحَن.

ربما واحدة من تعقيدات الوضع اللبناني الداخلي وانعكاساته المتشعبة على كل نواحي الحياة، غيابُ الأغنية الوطنية الجديدة التي يُفترض أن تلعب الدور الذي طالما أدّتْه في ظروف مماثلة لتكون رافعةً للعزائم وبلسماً للقلوب.

على موجات الإذاعات وشاشات التلفزيون، تطلّ أغنيات وطنية عرفها اللبنانيون منذ عقود واستأنسوا بها في أصعب أوقاتهم. أعمال ناجت بعلبك والجنوب وبيروت وكل لبنان، وكانت ضمير الوطن وخفقات قلبه، لكن مثيلاتها اليوم تحتجب، منتظِرة وربما خجلة... فما السبب؟

«الراي» سألت فنانين وشعراء وإعلاميين ونقاداً، وكان هذا التحقيق.

نزار فرنسيس: غيابها اليوم معيب

نزار فرنسيس شاعر الأغنية اللبنانية الذي خطّ أجمل الأغنيات الوطنية لكبار الفنانين. لعاصي الحلاني كَتَبَ الأغنية التي صارت نشيداً «بيكفي إنك لبناني»، ولمعين شريف أعطاه أغنيته الملتزمة «لازم تعرف يا محتل»، ولسواهم كتب عشرات الأغنيات.

يعترف فرنسيس لـ«الراي» بالضياع الحاصل في الوقت الحاضر في الوسط الفني، ويقول إن الفنانين اليوم «يخشون اتخاذ مواقف قد تُعتبر منحازة إلى فريق ما. فالانقسام الداخلي حول الحرب انعكس على الإنتاج الفني. وبات الفنان يقف متسائلاً: مع مَن أقف؟ لمَن أغنّي؟ ويفضّل الابتعاد والسكوت فيما شهدت الساحة الفنية في مراحل سابقة وحدةً وتعاطفاً كبيراً أمام ما يجري من أحداث مثل استشهاد الرئيس الحريري أو حرب يوليو 2006 أو انفجار المرفأ، وهو ما تجلى في ظهور أغنيات وطنية كثيرة غابت اليوم بسبب الانقسام الحاصل».

بالنسبة لفرنسيس، غياب الأغنية الوطنية أمر معيب، «خصوصاً أن الكثير من الفنانين عاشوا حياتهم وكأن لا شيء يحدث في البلد وقليلون فقط من عبّروا عن آراء ومواقف ليثبتوا أنهم من هذا الشعب».

ويضيف: «صحيح أن لبنان منقسم بين رأييْن مختلفيْن، لكن الوقوف ضد البلد أمر معيب ولا بدّ من الوصول إلى أغنياتٍ تَجْمع ولا تفرّق، لا تحمل انحيازاً بل تعيد الأمل إلى الناس لتقول لهم: أنتم أنا وأنا أنتم أشعر معكم وأحسّ بمعاناتكم. فالإنسان المجروح لا ينسى اثنين: مَن وقف معه ومَن شَمتَ به. ولذلك، وفي غمرة مآسي الناس وما تعرض له لبنان من هجمة كبيرة وانهيار مخيف، كان لا بد من التكاتف مع بعضنا البعض بعيداً عن النظر في المسؤوليات وأسباب الحرب. وما حدث من تغاض ولامبالاة هو ابتعاد عن الآخَر الذي يحتاج إلى لمسة أمل...».

نزار فرنسيس كَتَبَ أغنيات جديدة من منطلق الروح الجامعة في زمن الانقسام ومستعدّ لإعطائها لمَن يطلبها، وشرطه الوحيد أن يكون مَن يؤديها محط ثقة في حسه الوطني وقادر على جعل الناس يصدقونه، فلا تكون الأغنية مجرد استعراض فارغ. ويؤكد أن ثمة إنتاجات جديدة تُحضّر لكنها مجمدة. وقد كتب فرنسيس أخيراً أغنية وطنية بعنوان «محروس يا لبنان» غنّاها الوليد الحلاني. وخصّ حملة «سطوح بيروت» بأغنية «يا حبيبي يا لبنان» في حركة لافتة ضمن هذا الجمود الفني.

عاصي الحلاني: بصدد التحضير لعملٍ وطني جديد يُحاكي المرحلة

عاصي الحلاني، الذي تعرّضتْ قريتُه الحلانية البقاعية للكثير من الاعتداءات الإسرائيلية، يؤكد لـ«الراي» أنه في كل المراحل من التسعينات وحتى اليوم كان لديه حرص كبير على تقديم أعمال وطنية، ويقول: «لطالما تمسّكتُ بتقديم الأغنيات الوطنية التي تتماشى مع الظروف التي يمرّ بها لبنان، سواء في أوقاته السعيدة أو في أزماته وهي أغنيات تحاكي المرحلة، موجَّهة لفلسطين أو الجنوب أو بيروت أو بعلبك. وأخيراً تم التركيز على إذاعة أغنية خاصة بمدينة بعلبك من كلمات نزار فرنسيس وألحاني وتوزيع طوني سابا، مع أنني كنتُ أتمنى ألا نصل إلى هذه المرحلة وألا تذاع الأغنية في مثل تلك الظروف، حيث تعرّضت مدينة بعلبك للقصف والعدوان الغاشم وناسها يستشهدون ويتأذون»، ويضيف: «حالياً أنا بصدد التحضير لعمل وطني جديد عن لبنان وبيروت يتمحور موضوعُها حول الحالة التي يمرّ فيها بلدنا حالياً، ولا يسعني سوى أن أتمنى أن يعود الناس إلى بيوتهم والأوضاع إلى طبيعتها وأن تنتهي المرحلة الصعبة التي نعيشها ويمرّ بها الشعب اللبناني والأهل والعائلة».

زياد بطرس: نخطّط لأغنيات جديدة لن أفصح عنها

يحمل عدد كبير من أغنيات الفنانة جوليا بطرس، خصوصاً الوطنية، توقيع شقيقها الملحن زياد بطرس، وهي الأغنيات الأكثر حضوراً عندما يتعلّق الأمر بالرغبة في بثّ روح الانتصار والمقاومة والحضّ على مقارعة العدو.

ويشير زياد عبر «الراي» إلى أن هناك مخططات لتقديم أغنيات جديدة سيتم الإعلان عنها في الوقت المناسب، ويضيف «حالياً لن أفصح عن شيء. كلنا نعيش الحالة التي يمرّ بها لبنان، ولكن لا شيء يمكن الإفصاح عنه، ونحن لن نغيب فنياً عما حصل ويحصل، ولكن لا يوجد ما يمكن الإعلان عنه في الوقت الراهن».

معين شريف: سأكون حريصاً على تقديم المزيد من الأغنيات الوطنية

الفنان معين شريف تعرّض بيتُه في منطقة الشياح إلى إصابة مباشرة في إحدى الغارات الإسرائيلية ما تسبّب بتدميره بالكامل، وهو منزل فخم مؤلف من طبقتين يضم إلى الأثاث والمفروشات مجموعة من الآلات الموسيقية النادرة ومعدّات التسجيل التي تهشَّمت بشكل كلي، ولم يَبْقَ من المنزل الذي كان يَجد فيه ملاذاً له ولعائلته ولتعليم أولاده إلا الذكريات والحجارة المتناثرة أو المتراكمة في كل مكان.

ويقول شريف لـ«الراي»: «يضم رصيدي الكثير من الأعمال الوطنية، ولكن بما أننا نعيش حرباً متعددة الوجه، يوجد تعتيم كبير على كل عمل وطني يحاكي ويضيء على المرحلة الصعبة التي نعيشها حالياً. الفَرَج قريب إن شاء الله، ولا شك في أنني سأكون حريصاً على تقديم المزيد من الأغنيات الوطنية التي اعتاد الناس على سماعها مني».

ملحم زين يعيش عزلةً ومزاجُه سيّئ

الفنان ملحم زين يعيش حالة من العزلة بسبب تأثُّره الكبير وحزنه على الوطن في الظروف التي يعيشها حالياً، وهو أقفل هاتفه منذ بداية الحرب ويحاول أن يصبّ كل اهتمامه وتركيزه على عائلته وأهله وأشقائه وشقيقاته الذين فرّقتهم الحرب القذرة. ويقول مدير أعماله طوني عازار لـ«الراي» بعد تعذّر التواصل مع زين مباشرة: «ملحم غائب عن السمع منذ بداية الحرب. هو مُنْهَمِكٌ بعائلته، وقريتُه تَعَرَّضَتْ للدمار، وإخوته وأفراد عائلته مشتَّتون كل واحد منهم في مكان. هو في مزاج سيّئ ولا يريد الكلام والغناء أو تسجيل أغنيات جديدة. حالياً هو بعيد عن كل شيء، عن الفن والحفلات والسوشيال ميديا والمقابلات، بالرغم من العروض الكثيرة».

علاء زلزلي: أرفض أغنيات الحزن وسأعمل على أغنية تعكس العزة والعنفوان

الفنان علاء زلزلي غادر وعائلته في بداية الأزمة منزلَه في مدينة صور التي تعرّضت لأبشع الاعتداءات الوحشية. وهو يوضح موقفه قائلاً لـ«الراي»: «منذ أن بدأت الحرب في غزة لم أتوقّف عن نشر الأغنيات الوطنية على حساباتي في مواقع التواصل الاجتماعي. وأنا من بين أكثر الفنانين دعماً على هذا الصعيد ولم أتأخّر يوماً عن القيام بهذا الواجب، والكل يعرف أنني ملتزم بتقديم الأغنية الوطنية تماماً كحرصي على مواقفي الوطنية الراسخة والتي لا يمكن أن تتزحزح أبداً».

ويشير زلزلي إلى أنه بصدد التحضير لأغنية وطنية جديدة «ولكنني أريدها أغنيةً تعكس القوة والعنفوان والعزّ والكرامة، لأنني أرفض أغنيات الحزن والألم ومن المؤكد أنها ستُطرح خلال الأيام القليلة المقبلة».

روبير فرنجية: كره فئة كبيرة للحرب لا ينفي كرهَها للعدو الإسرائيلي

يقول الإعلامي والناقد الفني روبير فرنجية لـ«الراي» إن غياب الأغنية الوطنية اليوم له تفسيران، «الأول غياب العمالقة الذين يصعب موازاة ما كتبوه من أغنيات للجنوب، للوجع، للقضية الفلسطينية. والدليل أن أغنيات عدة كُتبت بعد انفجار مرفأ بيروت لكنها لم تَرْقَ إلى مصاف الأغنيات القديمة التي تغلّبت عليها وبقيت راسخةً أكثر في وجدان الناس».

أما السبب الثاني المباشر وفق فرنجية، «فيعود إلى كره الناس، والفنانين بينهم، للحرب، الأمر الذي أثبط اندفاعهم للبحث عن أغنية معبّرة. ففي لبنان اليوم انقسام لا يمكن إنكاره حول الحرب، لكن ما يجب قوله إن كره فئة كبيرة للحرب لا ينفي كرهها للعدو الإسرائيلي. والأغنية الوطنية التي تصدر اليوم ستكون انعكاساً للواقع المنقسم الذي يعيشه لبنان والنظرة غير الموحّدة تجاه الحرب».

ويضيف: «عند اغتيال الرئيس رفيق الحريري العام 2005 كان هناك إجماع وطني، وكل الطوائف غنّت للمناسبة. اليوم الفنانون يقيسون كلماتهم ويحسبون حساباتهم. ولا شك أن غالبيتهم متضامنون مع ما أصاب لبنان وأبناء الجنوب والبقاع تضامناً إنسانياً بعيداً عن السياسة، ولكنهم مستاؤون من الحرب ويشعرون بأن لبنان دفع ثمن حرب الآخَرين على أرضه».

جمال فياض: لا يمكن للفنان أن يكون حليف العدو

الكاتب والناقد الفني الدكتور جمال فياض لا يخشى القول «إن الفنانين اليوم يخشون إنزال أي أغنية وطنية حتى لا تُحسب عليهم كعملٍ تضامني مع هذه الفئة أو تلك فيُحسبون طرفاً. وفي اعتقادهم أن الحرب ليست حرب لبنان بل حرب فئة أو حزب. وتتملّكهم «فوبيا» العقوبات والمقاطعة. والفنان كأي مواطن عادي يبحث عن مصلحته ولا يودّ الدخول في متاهات بل يسعى لإكمال حياته بشكل عادي. وقلةٌ فقط مَن يملكون الجرأة على اتخاذ موقف أو التعبير عن رأي، وهؤلاء فئةٌ مقاطَعة أصلاً. والفنانون الذين يعملون ويقيمون الحفلات اليوم يردّدون أغنياتهم الوطنية القديمة كنوعٍ من رفْع العتب، لكن لا أحد يستنكر في العلن والمباشَر ما يحدث. كل الأغنيات الوطنية التي تُذاع اليوم قديمة، والفنانون يُحاذِرون تقديم أغنية جديدة يمكن أن تُفهم أنها لفريق».

ويؤكد فياض: «لا يودّ الفنانون إثارةَ أي جهةٍ ضدّهم حتى لا تنقطع أرزاقُهم. وهم يحسبون تصرفاتهم جيداً حتى لا تُحسب عليهم خطأً. فالفنان عنده جمهور من كل الفئات، وإذا دخل في مواقف سياسية قد يخسر جزءاً من هذا الجمهور ولذا يجد أن الحياد هو المكان الذي يكون فيه بوضع آمن سليم».

ويضيف فياض: «أحترم الفنان الذي له رأيه في السياسة ولديه ثقافة واطلاع، كما أحترم الساكت الذكي الذي لا (يخبّص) بالكلام. أما مَن يجاهر بالتضامن مع العدو أو يبرّر له إجرامه في موقفٍ مهتزّ فهذا لا يليق به الاحترام، وكذلك مَن يتكلم رفْع عتب وقد بدأ متأخراً في مجال إبداء الرأي السياسي من دون أن يفقه ما يقوله كونه لا يملك ثقافة عامة ولا حتى وطنية. وكذلك، فإن مَن ينتقل من جهة إلى جهة وفق مصالحه وليس قناعاته ويمشي وفق ما يتطلبه (السوق)، يَفهم الجمهورُ لعبتَه بسرعة ويحاسبه على مواقفه المتقلّبة. فالجمهور ليس غبياً ويعرف الصادق مِن الذي يتكلم لإبعاد أي شبهة سياسية عنه وللحفاظ على مصالحه».

... «الوضعُ في الحرب الأخيرة اختلف عن كل الحروب، والكل تعرّض سواء من حيث القصف المباشر أو محاولات الاغتيال، ولذا فجميع الفنانين سعوا لحفظ رؤوسهم من جهة والحفاظ على مصالحهم من جهة أخرى، وهمّهم الأول كان أن يُفْهِموا أصحاب النفوذ والمؤثّرين على الوضع الفني أنهم معهم وليسوا ضدهم، لكن مهما يكن من أمر»، يؤكد د. جمال فياض «لا يمكن للفنان أن يكون حليف العدو».

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي