أيام في مدينة العشب الأزرق
سُميت كنتاكي، ولاية العشب الأزرق، لوجود المروج الرحبة والممتلئة بالعشب ذي اللون المائل للزرقة. تعتبر من الولايات الوسط التي يتراوح تعداد سكانها بحوالي أربعة ملايين يسكنون على مساحة تتعدى 100 ألف كيلو متر مربع، معظمها غابات ومناطق شجرية وأنهار ومستنقعات وحقول زراعية طبيعية.
ولاية العشب الأزرق من الولايات الفقيرة في سلم الولايات الأميركية الخمسين، ولكنها ذات تاريخ كبير وإذ جاء منها الرئيس أبراهام لينكون، وأسطورة الملاكمة العالمية محمد علي كلاي، رحمه الله.
سكان هذه الولاية يتسمون بالطيبة والعفوية بشكل عام. أهم مدينتين في الولاية هما لوفيل وهي المدينة الأكبر المتاخمة لحدود ولاية أنديانا وهي مسقط رأس الملاكم الكبير كلاي. والمدينة الثانية هي لكسينغتون وهي تحتضن أهم جامعة في الولاية وهي جامعة كنتاكي العريقة التي تأسست عام 1865، والتي منها حصلتُ على درجة الدكتوراه.
عشقتُ هذه الولاية وما حفلت به ذاكرتي وما حمله وجداني من جدائل ذكريات في كل خصلة منها حكاية تقترب من حكايات ألف ليلة وليلة.
في يناير من عام 1990 التحقت بهذه الجامعة التي كنت فيها الكويتي الوحيد، وهذا ما دفعني بالدراسة فيها من بين أربعة جامعات أخرى حصلت على القبول فيها من قائمة الجامعات المعتمدة لدى القسم العلمي حينذاك، حيث كانت تتضمن 40 جامعة أميركية فقط. قبل حصولي على القبول قمت بزيارة قسم العلوم السياسية في مبنى باترسون ولكني لم أجد أحداً غير شخص واحد كان يكنس الارضية، فسألني: هل لي أن أقدم لك أي خدمة؟ سألته متى يبدأ الدوام؟ فقال غداً يأتي أعضاء الهيئة التدريسية، شكرته ورحلت.
عدت في اليوم التالي فسألت سكرتارية رئيس القسم، هل لي من مقابلته، اتصلت عليه وأذن لي بالدخول فكانت المفاجأة! لقد كان ذلك الرجل الذي يكنس الأرضية! بادرني بالقول: ألم أقل لك بالأمس هل من خدمة أقدمها لك! أعتذرت له، وأبديت رغبتي في الحصول على قبول شارحاً له وضعي والتخصص الذي يجب أن أحصل عليه، فأخذني إلى مكتب البروفيسور كارن منجست، المتخصصة في التنظيم الدولي والتي بدورها عرفتني على البروفيسور شانج إن مون (كوري الجنسية والمتخصص في الأمن الدولي والشرق الأوسط).
فور حصولي على القبول لم أتردد في اختيار هذه الجامعة لأسباب عديدة منها اني سأكون الطالب الكويتي الوحيد بالجامعة وأول طالب في تاريخ قسم العلوم السياسية من الشرق الأوسط منذ تأسيسه عام 1923 أي قبل أكثر من 100 عام.
لم ألتقِ بأي طالب عربي في الجامعة، إلا طالب واحد من المملكة العربية السعودية جمعتني الصدفة به في مكتبة الجامعة فكنا نلتقي بين الفينة والأخرى. وشاءت الأقدار أن يحدث الغزو العراقي الآثم في شهر أغسطس فوجدت نفسي وحيداً غير ذلك الصديق السعودي، فكان يحاول مساندتي معنوياً في أول الأيام.
بعد أول أسبوع من الغزو الغاشم، استدعتني لجنة الدكتوراه الخاصة بي للمقابلة وكانت مكوّنة من خمسة أساتذة. حينها كان والدي رحمه الله، زائراً أثناء الإجازة الصيفية فقدم لي مبلغ 20 ألف دولار كي أودعها في حسابي، وأقدم كشفاً بنكياً بها للجامعة معتقداً بأنهم سيسألوني عن كيفية تدبير أموري حيث إن المعاملات المالية الخاصة بالكويت كافة قد توقفت على أثر الغزو. ذهبت للمقابلة وفي ذهني أن السبب لاستدعائي هو بسبب احتمال توقف البعثة! لكني فوجئت باستفسارهم عن المصروفات كافة التي تتكفل بها الحكومة الكويتية في البعثة وعن قيمة الإيجار السكني الذي أمكث به! فسألتهم لماذا؟، فقالت لي رئيسة اللجنة الدكتورة كارن منجست، إنك الطالب الوحيد الكويتي في هذه الجامعة ونريدك أن تستمر بالدراسة دون متاعب، ونريد أن نقدم شيئاً للكويت المنكوبة وهذا ما نستطيع تقديمه الآن من خلال مساعدتنا لك دون أي مقابل، أي سيتكفلون برسوم الجامعة والمرتبات والإيجار السكني والتأمين الصحي.
حينها شعرت بأن قيود الوحدة قد أنكسرت وتحرّرت نفسياً من أثر العدوان على بلدي وأيقنت بأن هذه الروح الإنسانية هي الشهادة الحقيقية التي يمكن أن يتعلمها الإنسان من إنسان آخر نظير له في الخلق.
طبعاً، شكرتهم وبحمد الله كانت سفارتنا في واشنطن، في عهد الشيخ المرحوم سعود الناصر الصباح، قد وفّرت سُبل الراحة والطمأنينة كافة لجميع الطلبة والجالية الكويتية في أميركا.
لم تقف جامعة العشب الأزرق عند هذا الحد، بل أقامت ندوات وفعاليات عدة للكويت منها دعوة خاصة للدكتور المرحوم سيف عباس، كعضو في لجنة «كويت حرة» للتحدث عن الغزو. كما أقامت الجامعة ندوة جماهيرية كبيرة ودعتني كمتحدث بها بمعية أحد السياسيين من البيت الأبيض، وقد كانت ليلة حافلة بحضور اكثر من 500 شخصية جامعية وطلابية في مسرح الجامعة.
لأني كنت الطالب الكويتي الوحيد فقد أجرت بعض المحطات الإعلامية مقابلات عدة مثل الإذاعات والتلفزيون المحلي وبعض الصحف، وحتى أن بعض الكنائس قامت بدعوتي كي أقدم محاضرة عن الكويت في الفترة الصباحية قبل بدء مراسم يوم الأحد. من خلال السفارة ولجنة الكويت حرة كانت تصل لي بعض القبعات والفنايل التي تحمل شعار الكويت حرة Free Kuwait، فكنت أوزعها في الأماكن العامة بمعية الأهل وبناتي الصغار. وبفعل ذلك صرت مشهوراً في هذه المدينة الصغيرة التي أحببتها وأحبني بها الكثيرون من الناس من الوظائف والفئات والأعمار كافة.
بعد التحرير من براثن الاحتلال، أرسلت الحكومة الكويتية بعض الطلبة في تخصص الهندسة للجامعة وبعض المختصين في طب الأسنان لجامعة كنتاكي، فتكوّن أول مجتمع كويتي في مدينة لكسينغتون الجميلة. وبطبيعة الحال، لم ننقطع في تلك الأيام عن الكويتيين في مدينة سينسيناتي في ولاية أوهايو التي كانت تبعد ساعة ونصف الساعة بالسيارة، أو عن مدينة أتلانتا في ولاية جورجيا التي تبعد خمس ساعات بالسيارة، فكنا نعمل بعض الفعاليات بشأن العدوان العراقي فتعرفت على العديد من الطلبة الكويتيين الذين مازلتُ أتمتع بعلاقة وطيدة معهم.
بعد مرور 14 عاماً من دخولي الجامعة أي في عام 2014 تقريباً دعتني مدرسة بارترسون للدبلوماسية والتجارة الدولية في الجامعة نفسها، حيث كانت ذات صلة بقسم العلوم السياسية، إلى تقديم محاضرة عما يحدث في فترة ما بعد الربيع العربي. قدمتني للمحاضرة البروفيسورة كارن منجست، وقد قالت لطلبة الدراسات العليا والأساتذة الحضور إنني قد كتبت إحدى رسائل الدكتوراه المتميزة، حيث كانت عن توظيف المنظمات غير الحكومية في صراع الهيمنة بين كل من مصر والسعودية وإيران.
وفي بداية محاضرتي استرجعت الذاكرة فسردت قصة ذلك اليوم الذي استدعتني فيه لجنة الدكتوراه لكي تقدم لي ذلك العرض السخي والإنساني، وقلت لهم إن ذلك هو بمثابة الشهادة الكبرى التي حصلت عليها من هذه الجامعة قبل أن أحصل على الدكتوراه، وإذا بالبروفيسورة منجست، تذرف دمعها وقاطعتني متعجبة كيف إني لم أنس تلك الحادثة! وكيف بي أن أنسى ذلك الموقف الإنساني الكبير!
اليوم يقترب على مفارقتي جامعة العشب الأزرق 30 عاماً انصرفت وقد طوت السنون ذكريات كثيرة جميلة لاتزال تراودني بين الفينة والأخرى. وعلى الرغم من تقلب الذاكرة إلا أن الزمن قد حفر روافد أيام ولاية العشب الأزرق ولاتزال شعيراتها الحريرية تنمو وتسمو وتداعب صبا نسمات فجر تشعشع نوره بعلوم تلك الجامعة وأناسها الطيبين الذين وإن كانوا من مدرسي السياسة، إلا انهم كانوا ولايزالون بشراً تملأ شعورهم وعقولهم القيم الإنسانية التي مع الأسف لا تعكسها السياسة الأميركية خاصة في التعامل مع الكيان الغاصب الذي أجرم وعاث في الحرث والأرض والبر والبحر فساداً.