«الحاضر مفتاح الماضي»... أشهر المبادئ الأساسية في علم الجيولوجيا، أي أن الأدلة والشواهد التي نراها اليوم ما هي إلا قصاصات وبراهين لأحداث عظيمة وقعت في عهد قديم.
منذ أن وُلدْتُ وهناك حرب تدور في منطقة ما من الكرة الأرضية، وإلى أن أودّع الدنيا -أنا متأكدة- ستظل الحروب دائرة بين فرق من البشر تختلف في ما بينها بما يسمّونه «السياسة»، فاختلاف وجهات النظر أو «الأيديولوجيات» ولاسيما إذا مُزج الخلاف بدافع ديني، يولّد كراهية أكبر، وهو ما يعني استعداد شباب كثيرين لترك أسرهم (آباء وأمهات وزوجاتٍ وأبناء)، ليقاتلوا أشخاصاً لا يعرفونهم، وربما لا يعرفون لماذا يقاتلونهم.
في كل دولة نسافر إليها، ونزور متحفها الوطني، لا بد أن نجد صوراً وملابس وأسلحة لجيوش وحروب سابقة.
كنت أتجوّل في أحد المتاحف وأشاهد صوراً لنازحين، وعلامات الرعب والهلع تبدو على وجوههم، وأتساءل: «من كان يهتم لهم؟».
أنا لا أعرفهم، وربما لا أهتم، وعلى الأرجح لم يبقَ أحدٌ ممن في هذه الصور على قيد الحياة اليوم.
أما المضحك -عزيزي القارئ- فهو أن تلك الدول (الأعدقاء) قد تصالحت اليوم، وأصبحت حليفة بعضها لبعض بعد برك الدم التي سالت على تلك الأراضي، وخلّفت ردحاً من الزمن صوراً شتى من المعاناة والجوع والفقر والنزوح للمجهول.
أريد تسليط الضوء على رجل من النازحين، هرب مع زوجته التي خشي أن تتعرّض للاغتصاب من العدو، واصطحب ابنيه، وهما مراهق وطفلة تبلغ من العمر سنتين، ذهبوا جميعاً بحثاً عن حياة كريمة في إحدى الدول التي لا يشتركون معها في دين أو لغة أو عادات وتقاليد، لكن الحاجة مؤلمة، علماً أن فراق الوطن صعب، وخسارة المنزل والمال لهي مصيبة عظيمة، لكن كانت هذه الأسرة (البائسة) تأمل في أن تبدأ حياة جديدة في قارة بعيدة عن بقية الأقارب الذين صاروا أوزاعاً في دول بعيدة، ومنهم من سكن القبور في الوطن، أو صاروا طعاماً لحيتان البحر المتوسط.
استطاع الرجل بعد عناء وصعوبة في التواصل وخسارة في الوقت أن يجد لابنه مدرسة يتعلّم فيها، ويتعرّف على أصدقاء لهم أصول وجذور مختلفة عنه، وكان كثيراً ما يستحي من الحديث عن دينه خوفاً من عدم تقبل زملائه له.
بدأ هذا الفتى بلوم العالم على ما حدث له، وأن كل فرد في العالم مسؤول عما جرى لوطنه، فلا تزال صور الوطن (المدمّر) عالقةً في ذهنه.
أما أخته فقد كبرت بعادات وتقاليد جديدة لا تعرف شيئاً عن وطنها سوى صور لم تكن تحضرها وحكايات يسردها والداها عن مكان كان يوماً ما آمناً بأهله.
في سنوات الحرب، تولد أجيال تعاني الجهل والفقر وغربة النفس، وعندما تعاقب من حولها فإنها تحول طفلاً لا شأن له بالسياسة إلى مجرم قاتل أو سارق، أو - في أحسن حالاته - تنتج إنساناً بذيئاً يستخدم ألفاظاً نابية، يتهامس الناس بينهم: «لم يستطع أبواه لأن يربياه».
بعض الشعوب تخطئ في جعل هؤلاء الضحايا (اللاجئين) مسؤولين عن تردي الحال في البلاد التي لجأوا إليها، ولربما يرون أنهم حِملٌ ثقيل على كاهل دولهم اقتصادياً واجتماعياً، وأن العالم غير مستعد لأن يعوضهم، ولن يرسم لهم حياة جديدة يعيشونها.
عندما تضع الحرب أوزارها... تصبح الحياة بعدها أقسى، أليس كذلك؟