تحطيم الأسطورة «لإسرائيل الاستثنائية» في العقلية العربية (2 من 2)

تصغير
تكبير

هكذا من خلال نتائج تلك الحروب، حققت إسرائيل الصهيونية أسطورة الجيش الذي لا يُهزم، والدولة المستهدفة التي لا تكسر، والكيان السياسي المدعوم من أكبر القوى العالمية التي لا تقهر! هذه الأسطورة ترسخت أكثر وأكثر مع سقوط الاتحاد السوفياتي. ومن هنا بدأت بعض الدول العربية وبعض المثقفين العرب والدوائر الإعلامية تتخلى عن شعارات وحدة الصف والكلمة واللاءات الثلاثة استناداً إلى عدم واقعية الانتصار على إسرائيل، فبدأ قطار التطبيع والصلح وتدشين الأسطورة الإسرائيلية في العقل العربي أكثر وأعمق.

بداية تحطيم الأسطورة

الاستثنائية للكيان الغاصب

مع تغير الواقع السياسي حيث انتقلت المعارضة للكيان الغاصب من الحكومات إلى الشعوب، ونجاح بعض فصائل الشعوب في تحقيق غلبة سياسية في بدايتها وعسكرية في منتصفها امتداداً من ثورة أطفال الحجارة في بداية الثمانينات ومروراً بتحرير الأراضي اللبنانية وصولاً إلى تنامي الحركات الشعبية المعارضة للصلح والتطبيع، مع ذلك التغيير بدأت الخطوات الأولى لتدمير الأسطورة الاسرائيلية.

ولاحتواء هذا التنامي أخذت الصهيونية العالمية تحاكي بعض الأنظمة العربية في مشروع الصلح والتطبيع لخلق حاجز سياسي بينها وبين الشعوب العربية والإسلامية، على أن يقوم هذا الحاجز من خلال تلك الأنظمة. ولهذا كانت الصهيونية بحاجة إلى زرع الفرقة والفتن والشقاق والصراع وإشاعة ما أُطلق عليه بالفوضى الخلَّاقة وتجذير الاختلافات بين بني العرب ومؤسساتهم وحكوماتهم، وبالتالي تصوير هذه الشعوب الثائرة على الاحتلال للمقدسات الإسلامية والأراضي العربية وكأنها مجرد تيارات وأحزاب وفئات وطوائف تعمل ضد الحكومات العربية بالدرجة الأولى، فوقعت الفرقة بينهم فتحولت الموازين وأطراف النزاع إلى حيز معادلات جديدة ليست بالشكل التقليدي الذي اعتادت عليه الدول والمجتمعات العربية.

الحرب القائمة الآن تدور على عكس ما دارت عليه الجولة في عام 1948 من حيث تحول طبيعة الخصمان! فالطرف الإسرائيلي يضم الجيش النظامي الرسمي، وليس عصابات غير نظامية، ويشاركه في ذلك كل من أميركا وبعض الدول الغربية بشكل مباشر وغير مباشر، بينما الطرف المقابل المقاوم يمثل جيوشاً غير نظامية مدعومة من إيران. وعلى الرغم من الخسائر البشرية والمادية التي يعاني منها الطرف المقارع لإسرائيل؛ حيث استشهد أكثر من 43 ألفاً وأكثر من 120 ألف جريح في غزة وأكثر من 3 آلاف شهيد وأكثر من 14 ألف جريح في لبنان، علاوة على تدمير البيوت والمنازل والمستشفيات والمدارس والجامعات في قطاع غزة والجنوب اللبناني، لكن ومع ذلك الحجم من الخسائر البشرية والمدنية والمادية فقد استمرت الحرب لأكثر من 13 شهراً حتى تاريخه، وقد تكبد العدو الصهيوني أيضاً خسائر فادحة لا يستهان بها في الأرواح والبنية التحتية والمستوطنات وبعض المستوطنات التي أصبحت خاوية على عروشها، ودكّ بعض المصانع والمطارات والثكنات العسكرية، وإفلاس آلاف الشركات، وتصاعد الخسائر المالية التي ربت على مئات المليارات، وبالإضافة إلى هروب أكثر من مليون إسرائيلي للخارج، وتنامي التمرد والعصيان في الجيش، والاختلافات في الشارع السياسي وفي مجلس الوزراء المصغر، ناهيك عن تصاعد وتيرة المعارضات الشعبية والجماهيرية في دول العالم خصوصاً الدول الغربية ضد العدوان والتفرعن الاسرائيلي.

إن كل ذلك أدى إلى شيء في غاية الأهمية وهو تحطيم الأسطورة الصهيونية الاسرائيلية في العقلية العربية وبعض الشيء حتى في العقلية الغربية، وهذا هو أهم ما يؤرق الصهاينة لأنه سيؤدي إلى إنعاش الثقة في النفوس العربية والإسلامية في تحقيق الانتصار واستعادة الكرامة والأراضي وطرد المحتل.

ومع تحطيم هذه الأسطورة وخلق ثقافة جديدة ضد العقلية التقليدية الراضخة، سيكون الانتصار ليس على مستوى المعركة، ولكنه أيضاً سيكون على مستوى الحرب، بل وحتى الصراع البنيوي بين الصهيونية العالمية والشعوب العربية والإسلامية.

إن انتزاع عقدة الأسطورة المخيفة التي صنعها الكيان الصهيوني بالتعاون مع الغرب والشرق يمثل مرحلة مهمة من التحرر ما يطلق عليه بالهيمنة الثقافية. إذا كانت الهيمنة الثقافية تمارسها بعض الدول لتطويع مجتمعاتها، فإن الهيمنة الثقافية التي دأبت الصهيونية الإسرائيلية غرسها في العقول العربية والغربية هي أعمق وأكثر تنظيماً إذ عمل على تدشينها هيئات ودول وشخصيات ومؤسسات عالمية استطاعت أن تخترق عالم السياسة وبيوت المال والأعمال والساحات الإعلامية والفضاء الإلكتروني. لا شك أنه عمل منظم وممنهج ولكن لا ينبغي الاستسلام له والتسليم لأهدافه.

النضال في مواجهة الهيمنة الثقافية

طوال التاريخ، يعمل الغازي والمستعمر في تطويع الشعوب من خلال تبني ثقافة الاستعلاء التي تنطوي على مرفقات أهمها النظر بالقصر الذاتي الذي يقود حتماً إلى مرحلة التقصير العملي. لقد عملت كل القوى الإمبراطورية منذ العهود اليونانية والرومانية والفارسية وبقية الحضارات القديمة وصولاً إلى الامبراطوريات الجديدة في ذات الاتجاه الذي يعزّز من هيمنتها الثقافية لدى الشعوب المحتلة. الامبراطوريات التي نجحت في الاستغراق أكثر في الاحتلال هي تلك التي نجحت في بسط هيمنتها الثقافية قبل قوتها العسكرية، والعكس صحيح، فالشعوب التي تحررت ضحت وبدايتها كانت عبر رفض تلك الهيمنة الثقافية.

في الحالة العربية الراهنة، تمثل المقاومة بغض النظر عما تحمله من أفكار أيديولوجية ودرجة الاختلاف أو الاتفاق معها حركة واحدة جوهرية ترفض مسألة هيمنة الأسطورة الاستثنائية للكيان الغاصب. ولتعطيل حركة الرفض للأسطورة الاستثنائية عملت بعض الدوائر الإعلامية والسياسية الإقليمية على تحريك أطرافها تجاه مسائل هامشية مثل الفئوية والطائفية والاختلافات الحزبية والسياسية بين مكونات المجتمعات العربية والإسلامية.

إن تلك المسائل تعتبر هامشية في ظل الصراع البنيوي الذي يعتمل على مستوى الأمة، وهذا مع الأسف ما لا تدركه بعض الأوساط السياسية والدينية العربية والإسلامية الرسمية وغير الرسمية. بيد أن في المقابل، تتحرك الصهيواسرائيلية إزاء هذا الصراع مع المقاومة في تجييش المجتمعات الغربية من خلال تنشيط الفواعل الحضارية العليا التي تجمعها في إطار اليهودية – المسيحية «Judo-Christian» وفي الوقت ذاته تروج لمشروع الإبراهيمية «Abrahamic» على مستوى الشرق الجديد ومن ضمن هندسة جديدة غايتها تجذير الأسطورة الصهيوإسرائيلية الاستثنائية.

لقد نجحت الصهيونية الإسرائيلية في تهجين المسيحية السياسية في المجتمعات الغربية منذ القرن التاسع عشر في تقبل فكرة الهيودية المسيحية عبر تبني اليهودية المسيسة في الديانة المسيحية وذلك من خلال زرع فكرة أن المسيح الذي يؤمن به المسيحيون هو ملك اليهود يشوع أو يسوع، وبالتالي إذا أراد المسيحيون عودة المسيح فلابد من دعم مشروع دولة إسرائيل.

الابراهيمية على الجانب الآخر تمثل الجناح الأيسر الذي تريد الصهيواسرائيلية التحليق به في عالم السيطرة النهائية على الشرق الأوسط. من خلال استغلال صحة البداية التي تتمثل في إن سيدنا إبراهيم، هو أبو الانبياء ومرجع الديانات السماوية الثلاث، تحاول الصهيواسرائيلية الوصول إلى نهاية تتمثل في تقبل المرجعية لها كونها تمثل الدين الأول (اليهودية) التي منها تنبع التعاليم الدينية ومن هنا يتم تقبل هيمنة الأسطورة ثقافياً في العقلية العربية والإسلامية وبعدها يتم التسليم للغايات السياسية ضمن برنامج هندسة الشرق الأوسط الجديد.

الأمة العربية الاسلامية

أمام الصدمة والتحدي

إن القيمة الكبيرة للمقاومة لا تتمثل في تحقيقها نصراً أو صموداً على جبهة القتال بل لكونها قد بدأت بتحطيم تلك الأسطورة وهذا ما يفسر غضب وفعل الصهاينة في كل مكان، وإتيانهم بأفعال إجرامية على نحو غير مسبوق في ظل سكوت وتغافل رسمي عالمي.

ومن هنا، فإن المجتمعات العربية والإسلامية في ظل منظوماتها المؤسسية الرسمية وغير الرسمية مدعوة للتفكير في عمق هذا الملحمة من خلال منظور شمولي Macro- Structural Perspective وليس من زاوية حدية ضيقة مصغرة للحدث Micro- Reductional Perspective. لقد أرتبط نهوض الأمم بمدى قدرتها على صمودها للتحديات حيث ذهب المفكر والمؤرخ ارنولد توينبي، في نظرية لتفسير تاريخ الحضارات إلى ما أطلق عليه بـ «الوسيلة الذهبية» التي لو استغلتها المجتمعات فإنها ستنهض وتنجح في الاستجابة للتحديات التي تواجهها.

يرى توينبي بأن نهوض الأمم مرتهن بمدى قدرتها على الاستجابة للتحدي أو الصدمة. إذا استطاع المجتمع أن يستجيب للصدمة ايجابياً من حيث الإعتراف بها ومحاولة التغلب عليها فإنه سيتعلم عبر سلسلة من الإستجابات حتى يبلغ مستوى الوسيلة الذهبية التي منها تتخلص من تبعات التحديات وتعبر إلى مراحل النهوض.

إن الأمة العربية والإسلامية أمام تحدٍ بنيوي كبير وعليها أن تستفيد من هذا الحدث بمعية الاحداث السابقة وتستغل الفرصة الذهبية في التصدي لهذا العدوان الجائر الماكر.

على الأمة أن تعي بأن الانشغال بالمسائل الخلافية والهامشية لن تجعلها مؤهلة حضارياً للاستجابة للتحديات الراهنة والمستقبلية بحيث تكون بها فاعلة وصانعة ومنتجة للحدث بل مستهلك له وتابع لإحداثياته.

إن حركة الأمة تجاه صناعة الحضارة لن تكون عبر محرك صغير أو تعطيلها لطاقة متوقدة، بل هي مرتبطة بمدى قدرتها على تعظيم قدراتها وطاقاتها بشكل يسمح لها للتصدي للتحدي.

وبناء عليه، فإن تقاذف التهم على المستوى الرسمي أو الشعبي إزاء ما يحدث في ملحمة المواجهة في غزة ولبنان لن يحرك الأمة للأمام بل سيجعلها تتدحرج إلى الخلف نحو حافة الهاوية.

ولعل، وهذا ما نأمله، أن تدفع القمة الإسلامية التي دعت لها المملكة العربية السعودية في 11 نوفمبر الجاري الحكومات والشعوب الإسلامية إلى بداية حقيقية لاستغلال الفرصة الذهبية التي صنعتها المقاومة ضد عدوان الأسطورة الصهيواسرائيلية. ومما لا شك فيه إن المملكة العربية السعودية، وبالتعاون مع الدول الإسلامية والعربية الفاعلة، تمتلك القدرات التي يمكنها ترجمة هذه الفرصة الذهبية والتاريخية إلى تحقيق أول خطوة الانتصار لرفض وتحطيم هذه الأسطورة التي يراد لها أن تكون استثنائية على حساب الأمة العربية والاسلامية.

ختاماً، إنّ الذي يدرك الفرق بين حالة الوقت الطرفية وسنن الزمن التاريخية يدرك بأننا لا نتحدث عما سيكون ضرباً في الخيال أو ترجياً لأمل، بل نتحدث عن واقع جديد أخذت بوادره تلوح في الأفق وترتسم على معالم أرض الواقع، والذي بالتأكيد سيكون مكلفاً ومؤلماً، ولكن هكذا هي ملاحم قصص تحرير الأوطان من المستعمر عبارة عن مشاهد مخلوطة بين تراجيديا البداية التعيسة ودراما النهاية السعيدة.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي