بسبب طبيعة العصر الذي نعيش فيه، وبسبب التراكم المعرفي الضخم في العلوم الإنسانية، أصبح عُلماء السياسة الشرعية يستخدمون مصطلح فقه الواقع أو فقه الحال، وهما مصطلحان بمعنى واحد.
وما دعاهم لاستخدام كلمة (فقه)، هو أن معنى الفقه في اللغة: هو الفهم، وما يرمون له ذلك الفهم العميق والدقيق للواقع، إنه شيء زائد على الدراية والمعرفة، أي أنه الفهم المنهجي والعلمي للواقع وأسراره وجذوره.
أما الواقع فهو ما عليه أوضاع الناس وأحوالهم في كل مجالات الحياة.
إنّ العقل ماهر جداً في التعامل مع الكم، ولا يعادل مهارته تلك سوى عجزه وارتباكه في التعامل مع الكيف، ولهذا حين نتحدّث عن الواقع السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الأخلاقي لأي بلد، فنحن نتحدث عن شيء صنعنا له نماذج في أدمغتنا، وليس شيء رأيناه أو لمسناه. فواقع الفساد الأخلاقي أو رضا الناس عن العيش هو واقع يتم إنتاجه داخل الأذهان وأدوات عقلية.
من المهم أن نعرف أنّ العقل البشري لا يتعامل مع الواقع على نحو مباشر، وإنما عبر أدوات، وأدواته هي التعريفات والمصطلحات والمعلومات المتوافرة عن القضية التي نحاول فهمها وإدراكها، بالإضافة إلى الخلفية الثقافية والإمكانات الذهنية لدى الشخص الذي يحاول فهم الواقع.
في الحقيقة قدرة الناس على رؤية الواقع محدودة، وقدرتهم على تحليله أيضاً محدودة، لهذا الفهيم عليه أن يتعامل معه كما يتعامل مع رغيف الخبز حين يقسّمه إلى قطع صغيرة حتى يستطيع مضغه وهضمه.
لدينا واقع أخلاقي وتربوي واجتماعي واقتصادي وسياسي وتعليمي وتجاري، وكل نوع يحتاج إدراكه إلى الكثير من الجهود والخبرات والأدوات، وحتى يسهل الفهم لا بد من رسم الحدود المكانية والزمانية للواقع الذي نريد فهمه، وبعد ذلك نحدد المجال الذي نريد فهم قضاياه.
إن أخذ الواقع وملابساته ومعطياته بعين الاعتبار، يحتاج إلى معرفة عميقة ومتخصصة، ويحتاج إلى جرأة ومعالجة في الطرح، ولهذا علينا أن نتعايش مع الأحداث وننخرط في الواقع الذي نرغب في فهمه واستيعابه والحكم عليه. لنعيش عيشة هنية، عيشة يحبها الله ويرضاها ويؤجرنا عليها.
M.alwohaib@gmail.com
mona_alwohaib@