من الخميس إلى الخميس

إنّها الآخرة

تصغير
تكبير

عندما تفقد أخاك الأكبر تفقد معه رُكناً متيناً، هذا ما شعرتُ به حين جاءني نبأ وفاة أخي محمد، رحمه الله.

كان عزائي فيه أنّه سخّر حياته لعمل الخير، جعل من بنغلادش زاداً له يتقرّب بها إلى خالقه، مئات من آبارٍ ساهم مع الخيّرين في تشييدها هناك، عشرات من المساجد أشرفَ وساهمَ في بنائها، مدرسة بناها وتخرّج فيها الكثيرون منذ سنوات طوال، وكان يستعد لافتتاح مستشفى يستفيد منه الناس هناك، هذا المشفى أوشك على الانتهاء منه قبل أن يُلاقي ربه، مثل هذا الرجل لا يحزن الإنسان لانتقاله إلى خالقه، ولولا مشاعر الافتقاد لما شعرت بتلك الغصّة لوفاته.

منذ أعوام طوال وهو يقضي أشهراً في السنة يستقر بها بين الفقراء في بنغلادش، يواسيهم ويمدّهم بما يحتاجون إليه، قصّ لي عشرات من قصص الرحمة التي تجعل الإنسان منا يشعر أنه مقصِّر بحق المحتاجين في كل مكان، ما زالت في مخيلتي قصة تلك العجوز التي تعطّلت سيارة أخي قرب قريتها، فنزل أخي يتفقّد حالهم، صحِبَهُ بعض أهل القرية إلى عشّة امرأة بلغت من العمر عتياً، لا تكاد ترى ولا تكاد تسمع، ثيابها رثة، وأهل قريتها الفقيرة يجمعون ما يستطيعون من بقايا لإطعامها، فقدت أهلها وبقيت وحيدة ليأتي لها أبو أحمد (محمد) فيهب لها راحة جسدية ما بقي لها من حياة، تعطّلت مركبته ليكون ذلك خيراً له أولاً ولهذه العجوز ثانياً، مواقف لا تُحصى عاشها هناك أخي لمسلمين احتاجوا ابتسامته الحانية قبل عطائه، اليوم وبعد ذهابه لخالقه تُرى كم من أُسرة ستفقد يديه الحانيتين، وكم من صبي وصبية سيُحرمون من التعليم، وكم من محتاج لماء وكساء وطعام لن يجدوه أمامهم.

سيفتقده كل واحد منهم، فقد كان، رحمه الله، يهبُ لهم الأمل ويُؤمّن لهم، بفضل الله، السكن، ومع رحيله يبقى الأمل بالله الذي هو سبحانه يرفع روحاً ويهب للفقراء أرواحاً.

هكذا الدنيا لا تُبقي على أحد؛ ولكنها الآخرة التي تحفظ لنا كل شيء، نعم إنها الآخرة حيث حصاد الدنيا، وسيبقى مكانه خالياً مليئاً بروح العطاء والمحبة حيث آلاف من الأنفس هناك ترفع أيديها بالدعاء لهذا العربي الذي قطع المسافات لهم حاملاً عَبَقَ الأُخوّة ورحمة الإسلام، رحم الله أبا أحمد وأسكنه فسيح جناته.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي