الياس خوري فَتَحَ عينيْه على نكبة وأَغْمَضَها على... نكبات
... فَتَحَ عينيْه على نكبةٍ وأَغْمَضَهُما على نكباتٍ. هو حال الروائي والناقد والكاتب السياسي الياس خوري الذي رأى النورَ في حيّ الأشرفية البيروتي مع ضياع فلسطين في العام 1948 وانطفأتْ شَمْسُهُ في الـ 2024 مع احتضارِ حواضر كثيرة كبيروت ودمشق وبغداد وصنعاء و...
لم يكن الياس خوري في مسيرته وتَحوّلاتها مجرّد روائي أَغْوَتْهُ الحكايا والحبكات، إنه جيلُ قاماتٍ وقناعاتٍ مجبولةٍ بالإبداع والحرية والهمّ الإنساني، سكنتْه فلسطين المسلوبة، وبيروت المكسورة الأحلام، ودمشق المشّلعة الأبواب، وناضَلَ بالكلمة من أجل قضايا الإنسان ومناهضة الاستبداد.
يوماً، وقبل أن يستوطنه الألم الذي ما بعده ألم، قال خوري وكأنه يخطّ وصيةً: «أنا لا أحب كلمة أمل، كلمةٌ سخيفة. أنا أستخدم كلمة حلم. كلمة الأمل تأتي من نتأمّل في الحاضر، والحلمٌ حرٌّ أكثر. وفي حاضرنا لا شيء يستدعي الأمل، ونحن لا نعيش اليأسَ، إننا نعيش ما بعد اليأس. وما بعد اليأس يعني أن نبحث عن حلمٍ جديد، ولا يعني أن نستسلم. نحن بحاجة أن نحلم، مشكلتُنا أننا انحبسنا في أطرٍ فُرضت علينا من قوى الاستبداد والاحتلال والقمع، ونحن نلعب في قلب هذا السجن كي نخرج منه. وفي رأيي الحلمُ يتجدّد ولذلك يجب أن نجدّد أحلامَنا، ولديّ ثقةٌ بأن هناك حكمة في الحياة، أن هذا الظرف الراهن لن يدوم. وحقُّنا في هذه المرحلة الصعبة أن نبدأ ببلورةِ الأحلام الخاصة بنا والرؤى لتساعدنا على تَحَمُّل هذه اللحظات التي لا تُحتمل. أنتَ تعيش في لبنان وتعرف أن الوضعَ لا يُحتمل، والذين يعيشون في سورية أسوأ، وفي فلسطين أيضاً، وكل المشرق العربي. لذلك يجب أن نستجمع طاقاتنا لنحلم بشيء جديد لنتجاوز ما نعيش فيه. وفي رأيي أن الحياةَ ستَصنع نفسَها من جديد، ولن تتوقّف هنا».
وكان الحلم رفيق الياس خوري الدائم منذ أن حزم أول حقائبه العام 1967، بعد سنة من نيله شهادة الثانوية العامة، حين سافر وكان بعد في الـ 19 من عمره، الأردن وزار مخيّماً للاجئين الفلسطينيي ثم انضم إلى حركة فتح التابعة إلى منظمة التحرير الفلسطينية في ذلك الوقت.
غادر الأردن في عام 1970 بعد أحداث «سبتمبر الأسود» وسافر إلى فرنسا لمواصلة دراساته حيث حصل في 1972 على الدكتوراه في التاريخ الاجتماعي من جامعة باريس.
بعد عودته إلى لبنان، أصبح باحثًا في مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت. وعمل سكرتيراً لتحرير مجلة (شؤون فلسطينية) من 1975 إلى 1979 بالتعاون مع الشاعر محمود درويش، ومديراً لتحرير مجلة (الكرمل) بين 1981 و1982. كما شارك في هيئة تحرير مجلة (مواقف) وساهم في تحرير مجلة (الطريق).
وبين 1983 و1990، عمل مديراً لتحرير القسم الثقافي لجريدة (السفير) اللبنانية، ثم مديراً فنياً لمسرح بيروت بين 1992 و1998.
درّس في الجامعة اللبنانية، والجامعة اللبنانية الأميركية، والجامعة الأميركية في بيروت، وجامعة كولومبيا في نيويورك، ودرّس في جامعة نيويورك مادة الدراسات الشرق أوسطية والإسلامية. وشغل منصب رئيس تحرير الملحق الثقافي الأسبوعي لجريدة النهار اللبنانية منذ عام 1993 حتى عام 2009.
ومنذ 2011 شغل منصب رئيس تحرير مجلة «الدراسات الفلسطينية». وتم تحويل روايته الأشهر «باب الشمس» التي تضمّنت إعادة سرد ملحمية لحياة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان منذ نزوح الفلسطينيين عام 1948، إلى فيلم سينمائي من إخراج يسري نصرالله في عام 2004. وتُرجمت رواياته إلى العديد من اللغات مثل الإنجليزية والفرنسية.
حاز في 2011 وسام جوقة الشرف الإسباني من رتبة كومندور، وهو أعلى وسام يمنحه الملك خوان كارلوس، تكريماً لمساره الأدبي، كما فاز بجائزة اليونسكو للثقافة العربية لعام 2011 تقديراً للجهود التي بذلها في نشر الثقافة العربية وتعريف العالم بها.
نشر روايته الأولى في 1975 بعنوان «لقاء الدائرة»، وكتب سيناريو فيلم «الجبل الصغير» في 1977، الذي تدور أحداثه خلال الحرب الأهلية اللبنانية، ومن أعماله الأخرى «رحلة غاندي الصغير» التي تدور حول مهاجر ريفي يعيش في بيروت خلال أحداث الحرب الأهلية.
ومن أبرز أعماله: «أبواب المدينة»، «الوجوه البيضاء»، «رحلة غاندي الصغير»، «باب الشمس»، «رائحة الصابون»، «يالو»، «سينالكول»، «أولاد الغيتو».
وخوري، الذي كان شارك مع سمير قصير في تأسيس حركة «اليسار الديمقراطي» قبل أن يبتعد عنها، انطبعتْ الفصول الأخيرة من حياة بالكتابة بقلمٍ يعتصره الألم من داخل المستشفى حيث قاومخ المرض طويلاً.
وفي مقال خطّه من سريره في المستشفى في يوليو الماضي بعنوان «عام من الألم»، استذكر معاناته من «وجع لا سابق له»، وكتب «غزة وفلسطين تُضربان بشكل وحشي منذ ما يقارب العام أيضاً، وهما صامدتان لا تتزحزحان. إنهما النموذج الذي أتعلم منه كل يوم حبّ الحياة».