رؤية ورأي

الحكومة و«ما بعد الحقيقة»

تصغير
تكبير

قبل شيوع استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، كانت الحكومة تتعاطى بكفاءة مع الأخبار المشوبة بمعلومات مغلوطة أو منقوصة مسيئة لأدائها. حيث كانت وسائل النشر آنذاك مَحدودة ومُنظّمة ومُراقبة.

فعلى سبيل المثال، قبل تشييد فضاء التواصل الاجتماعي، كانت الحكومة تُسارع في إعداد الردود على المقالات والتقارير الصحافية المسيئة، وإرسالها إلى رؤساء التحرير المعنيّين، لينشروها وفق المادة (17) من القانون (3) لسنة 2006 في شأن المطبوعات والنشر، التي تنص على أنه «يجب على رئيس التحرير أن ينشر دون مقابل أي رد أو تصحيح أو تكذيب يرد إليه من الوزارة المختصّة أو الجهات الحكومية الأخرى أو من أي شخص اعتباري أو طبيعي ورد اسمه أو أشير إليه في كتابة أو رسم أو رمز تم نشره بالصحيفة وذلك في التاريخ الذي تحدّده الجهة المعنيّة وفي ذات مكان النشر وبذات الحروف وحجمها التي نشرت بها المادة موضوع الرد أو التصحيح أو التكذيب».

وحتى قبل إصدار هذا القانون، كانت الصحف الكويتية في العموم مُلتزمة بنشر ردود الحكومة، على المنشورات المسيئة، وذلك بعد التوسّع في تطبيق المادة (40) من القانون (3) لسنة 1961 بإصدار قانون المطبوعات والنشر، المناظرة للمادة (17) أعلاه.

بعد تدشين وتدويل شبكات التواصل الاجتماعي، واكبت الحكومة هذه الطفرات واستثمرتها في تسريع وتوسيع نطاق أنشطتها وجهودها للتواصل مع عملائها ومع عموم المواطنين والمقيمين.

ومع تصاعد زخم وعدد الحملات الإعلامية في الفضاء الافتراضي المنتقدة أدائها، أنشأت الحكومة «مركز التواصل الحكومي» التابع للأمانة العامة لمجلس الوزراء، ليتولّى «التواصل المباشر والفعّال مع المواطنين في شبكات التواصل الاجتماعي».

ولكن اضطرّت الحكومة لاحقاً إلى تجميد تكتيكي تدريجي لحضورها الإعلامي في الفضاء الافتراضي، وصولاً إلى حالة مقاربة للصمت، بعد أن انتقلت الكويت إلى ما يعرف باسم «عصر ما بعد الحقيقة» (Post-Truth Era). وهو العصر الذي تكون فيه الحقائق الموضوعية أقل تأثيراً من الشحن العاطفي في تشكيل الرأي العام، حيث تَطغى الآراء على الحقائق ويُستبدل المنطق بالعاطفة وتُحطّم الأدلّة بالتحيّز.

هذا العصر الذي بدأت مظاهره الأولى في 2009، بما عرف باسم «ثورات تويتر»، وصل إلى ذروته في 2016 حين تَوّج معجم اكسفورد كلمة «ما بعد الحقيقة» (Post-Truth) بكونها كلمة العام، بعد أن زاد استعمالها بنسبة 2000 في المئة خلال 2015. بسبب تداول اتهامات بشأن نجاح أطراف محلية وخارجية في تضليل وتوجيه الرأي العام عبر وسائل التواصل الاجتماعي في أحداث بارزة على نطاق العالم، من بينها انتخابات الرئاسة الأميركية واستفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

منذ انكشاف أخطار «عصر ما بعد الحقيقة» على سيادة الدول وأمنها ومصالحها العليا، سعت الدول – ومن بينها فرنسا وسائر الدول الغربية الليبرالية – إلى تشديد الرقابة على الفضاء الافتراضي وتأطير نطاق حق حرّية التعبير عن الرأي وتوسيع نطاق المسؤولية عن ممارسة هذا الحق. ومن بين التعديلات التشريعية المبدئية المنظمة لحرية التعبير، مبدأ التمييز بين الآراء الفردية المستقلة وبين تلك المتزامنة والمتناغمة مع حملات ممنهجة.

في الكويت، بعد تقهقر مظاهر «عصر ما بعد الحقيقة»، وتحديداً انخفاض زخم الحملات الإعلامية الممنهجة ضد الحكومة، عادت الحكومة إلى الأضواء الإعلامية التقليدية والافتراضية، ولكن بحذر شديد واستجابة بطيئة، كما في إصدار البيان التوضيحي الذي أصدرته وزارتي الدفاع والداخلية بشأن إخلاء عدد من «البيوت الشعبية» المخصّصة لمنتسبيها.

واليوم، لكي لا تعود الحملات الإعلامية الممنهجة المستعرة، وتبعاتها الكارثية، أناشد الحكومة استطلاع آراء الأطراف المعنية، ومن بينها مؤسسات المجتمع المدني والنشطاء المعتبرين، قبل إصدار القرارات المهمة غير المستعجلة.

«اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه».

abdnakhi@yahoo.com

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي