لعلّ النواة الأولى التي تشكل حولها المجتمع الكويتي فرضت عليه الاحتكام إلى مبدأ الشورى، لكون المهاجرين الأوائل كانوا من محيط مليءٍ بالحروب والانتقام على أساس الهوية الدينية أو العرقية أو مقتضيات الحاجة والفقر.
هؤلاء المهاجرون جميعهم قد تعرّضوا إلى أشكالٍ متعددةٍ من الاستهداف وحملوا معهم تجارب قاسية جراء التعصب بأنواعه كافة؛ لذلك كانت لدى الجميع رغبة في التعايش بسلام، حيث كان الأمن: هو الغاية الأساسية التي كانت تحكم ثقافتهم وسلوكهم وتصوراتهم. لذا، فاللجوء إلى الشورى كان وسيلة لتحقيق تلك الغاية.
أما الحديث عن التطور الديمقراطي، خاصة في النصف الأول من القرن العشرين، كأنه مبتعث من تطور فكري، وهو في نظري غير وارد، وإنما هو نتيجة لمجموعة عوامل أنثروبولوجية مجتمعية، أهمها العامل الاقتصادي.
يعود اكتشاف النفط في الخليج إلى تقرير بعثة المانية لشمال الخليج في عام 1871 بالتعاون مع الدولة العثمانية. ولذلك استبقت بريطانيا التواجد في المنطقة وعقدت الاتفاقيات حينذاك، وعليه فمن المؤكد أنها على علم بأن المنطقة تعوم على بحيرات نفطية. ولم يكن ذلك غريباً، فسكان الجزيرة العربية يعرفون أن النفط ويسمونه «القار»؛ وكانوا يرونه ينبع من الأرض أمام أعينهم؛ ولكنهم لا يعرفون قيمته، إلا لبعض الأمور الهامشية؛ فقد أنشد النابغة الذبياني في قصيدة اعتذاره للنعمان بن المنذر:
فلا تتركنَّي بالوعيد كأنني
إلى الناس مطليٌّ به القارُ أجرَبُ
في عام 1912م حاولت شركات بريطانية وإيطالية وألمانية، مثل: شركة نفط جزيرة فرسان... الحصول على امتياز التنقيب، وقبلها في عام 1901-1908م اكتشف النفط في إيران، وبعدها في البحرين عام 1925م، ثم في كركوك العراق عام 1927م، والكويت في عام 1938م.
إذاً، البريطانيون وخصومهم الدوليون علاوة على حكام المنطقة وبعض التجار المحتكِّين بالشركات الإقليمية والعالمية كانوا أول من عرف قيمة هذا الذهب الأسود (القار، الذي كان يُطلى به البعير الأجرب لدى بقية الناس)!
من هنا نستطيع أن نفهم تصاعد التوتر السياسي في الكويت ومطالبات التجار بالمشاركة في السلطة، وتلك المطالبة لا تعني بالضرورة أنّها مطالبة بديمقراطية مفتوحة؛ ولعل هذا ما يفسر اقتصار المشاركة في اختيار المجلس لمجموعة محددة من العوائل دون سواهم من مكونات المجتمع وأُسره الصغيرة. ولعل هذا هو السبب أيضاً الذي يفسر دور الوكيل البريطاني في الكويت جيرالد ديغوري، الذي كان «يلعب على الحبلين» بين الحاكم من جهة، وما يسميهم «بالنبلاء» أي الوجهاء من جهة أخرى.
لقد كان الكابتن ديغوري (الذي عين مستشاراً نفطياً بعد اعتزاله أو عزله من المنصب الرسمي) يَعرف أن تحت أرض الكويت نفطاً وأن مصالح بريطانيا مرتبطة بذلك؛ خاصةً في ضوء التنافس مع القوى الدولية الطامحة: مثل ألمانيا وإيطاليا وروسيا؛ التي تود مزاحمتهم في المنطقة عبر الدولة العثمانية.
لقد كان ديغوري أيضاً يمد علاقته مع الطرفين بتوازنٍ؛ لكي يعرف كيف يتموضع لمحاكاة مصالح بريطانيا العظمى. وبالتأكيد كان التجار أو الوجهاء بحكم علاقاتهم التجارية والسياسية في العراق والجزيرة العربية وإيران والهند يعرفون بأن هناك ذهباً أسود كامناً تحت أرضهم، وبالتالي فإن التركيز على إدارة موارد الدولة وعلاقاتها الخارجية كانت ضمن أهم الأولويات التي تمحور عليها الدستور الذي اقترحوه حينذاك على الشيخ أحمد الجابر، طيّب الله ثراه. وبناء عليه، يمكن القول: بأن الغاية ليست مشاركة سياسية مفتوحة بالمعني الديمقراطي، وإنما مشاركة في السلطة بالمعنى الاقتصادي، وشتان ما بين الاثنين. وعلى الرغم من ذلك، فلا مندوحة إن لذلك الحراك أثراً بارزاً في التوجه إلى الدولة الدستورية في ما بعد في عهد الشيخ عبدالله السالم، رحمه الله.
إذاً، يمكن القول بأن ولادة الديمقراطية لم تكن بناء على مخاض فكري أو تطور سياسي كما حصل في التجارب الأوروبية على سبيل المثال لا الحصر. فالديمقراطية هي مشاركة في مغانم اقتصادية بالنسبة لبعض التجار أو الوجهاء، وهي أيضاً ديمقراطية بالمعنى العرفي مغانم وذلك بالنسبة لبعض المكونات الاجتماعية والقبلية... الغاية منها الوجاهة وتحقيق المصالح الحياتية لهذه المكونات! وبناء عليه فالديمقراطية في المجتمع الكويتي لم يكن لها بناء ثقافي، وبالتالي هي ليست ثقافة ذات بنية فكرية تحتية وإنما ممارسة بنائية فوقية. لذلك، فازدواجية المعايير في السلوك السياسي لمعظم التيارات السياسية وبعض السياسيين تعكس ذلك المضمون الواقعي والمصلحي فقط. ومن هنا نستطيع أن نفهم، إشكالية مهمة تتلخص في النفعية الديمقراطية، أي إذا كانت الديمقراطية تعمل لصالحي أو لصالح المكون الاجتماعي الخاص بي فهي خير وخلاف ذلك فهي شر!
وعلى هذا الأساس، لم تكن ممارسة العمل الديمقراطي خلال التجربة الماضية، وخاصة بعد التسعينات، قائمة على أسبابها. لذا استشرت بعض مظاهر الفتن واستغلال الفرص، وتغولت قوى الفساد وشراء الأصوات، وجرت المسابقات على استجوابات غير مستحقة، وعلا صوت الواسطة على عقل الكفاءة، علاوة على تجذر مظاهر التعسف في استخدام السلطة ضد الآخر، إلى جانب تبادل المصالح بين السلطتين تحت غطاء المساومة التي أتت على حساب المصلحة العامة، ناهيك عن إثارة الفتن وغير ذلك من ظواهر أثرت على مخرجات الدولة فانحدرت مؤشراتها التنموية وباتت في خلف الركب الخليجي والدول النظيرة.
في المقابل نجد بأن الدستور الكويتي قد رسم معالم ديمقراطية اجتماعية راقية ترصع فيها التكافل والتراحم والتسامح والحرية والمساواة والعدالة وتكافؤ الفرص، التي اعتبرها المشرع مقومات المجتمع وبما يتعين على الدولة بجميع سلطاتها صيانتها.
لذا، فنحن فعلاً بحاجة إلى مراجعة نقدية لفكرة الديمقراطية كثقافة تحكم السلوك وليس سلوكاً هو من يحدد الثقافة. نريد ديمقراطية اجتماعية تعزز من الضمانات الحياتية والمعاشية وليست ديمقراطية رأسمالية محكومة بثقافة الربح والخسارة المادية. نريد ديمقراطية تجمع ولا تمنع، ترفض التفرقة والتزوير والعنصرية وتجعل المسؤولية مجتمعية وليست سلطوية فقط، هكذا نريدها... ولن تكون كذلك إلّا بتكوينها الثقافي أولاً وآخراً وليس الانتخابي فحسب.