حروب نتنياهو المستمرّة... الضفة الغربية على طريق غزة
منذ السابع من أكتوبر، اعتقلت إسرائيل أكثر من 10.000 فلسطيني من الضفة الغربية وقتلت أكثر من 650 شخصاً في محاولة لدفع الفلسطينيين لانتفاضةٍ تُطْلِقُ يدَ رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في ما يهدف له لجهة شنّ حروب متعددة الجبهة على الوجود الفلسطيني.
وقد تجلت هذه الرغبة منذ أن وصل نتنياهو إلى السلطة عام 1996 بعد اغتيال رئيس الوزراء إسحاق رابين، بتحريضٍ من الأول الذي رفض اتفاق أوسلو عام 1993 وعارض إعطاء الفلسطينيين دولة - أو دويلة - على أرض فلسطين.
ومن هذا المنطلق أطلق نتنياهو العنانَ لجيش الاحتلال لبدء عملية كبرى لأيام عدة في مخيم جنين، وهي الأوسع منذ 22 عاماً - تاريخ عملية «السور الواقي» عندما استبيحت جميع مناطق الضفة - وتستمرّ بحسب التطور العسكري، في مخيمات الضفة خصوصاً جنين وطولكرم، في ما يشي بأن يكون استنساخاً وإن في شكل مصغّر لِما ارتكبه داخل غزة من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وأَحْدَثه من دمار.
إنها خطوة متوقّعة لنتنياهو نقلتْه من أخذ موافقة الكنيست على القضاء على حلم الدولة الفلسطينية إلى العمل العسكري داخل الضفة، مع ترجيح انتشار العمليات التدميرية ليحقّق انتصاراً سياسياً يحتاج إليه بعد فشله في القضاء على المقاومة في غزة. وهذا يتماشى مع تطلعات العدد الأكبر من الشعب الأسرائيلي الذي أصبح في غالبيته يدعم التطرف ورئيس الوزراء الذي يَستخدم قوة السلاح بإفراطٍ على جبهات عدة لاظهار استعادة إسرائيل قوة الردع التي فقدتْها، خصوصاً في ظل تمتع إسرائيل بالدعم المطلق من واشنطن.
وكانت أميركا تصر على حلّ الدولتين وتدعو السلطة الفلسطينية إلى إيجاد آلية لدخول غزة في مرحلة ما بعد الحرب لتحلّ مكان «حماس». إلا أن نتنياهو رفض كلياً هذه الفكرة لمنْع التواصل والسيطرة الفلسطينية على غزة والضفة وترسيخ حلّ الدولتين. بل ذَهَبَ أكثر من ذلك، إذ دعا وصوّت الكنيست بغالبية 68 صوتاً على رفض حل الدولتين وقَطَع الطريق على المشروع الغربي بالتسويق لدولة فلسطينية إلى جانب الدولة الإسرائيلية.
ولا يمكن اتهام وزير الأمن القومي ايتمار بن غفير وزميله في وزراة المالية بتسلئيل سموتريش وحدهما بالتطرف بسبب انتمائهما للتيار الديني - الوطني المتطرف، دون الإشارة إلى أن زعيم حزب الليكود نتنياهو يتماهى مع أفكارهما وأهدافهما في ما يخص الوجود الفلسطيني على أرض فلسطسين، خصوصاً في الضفة الغربية. وهدف هؤلاء مجتمعين اقتلاع الشعب الفلسطيني بالكامل من مدنه وقراه ودفْعه للهجرة القسرية، أو بما يسمونه «الطوعية»، بعد تدمير البنى التحتية والمستشفيات والطرق.
وقد صرّح بن غفير مراراً بأنه كان اشترط على نتنياهو إطلاق يده داخل الضفة وتسليح المستوطنين وتدريبهم وحمايتهم مهما ارتكبوا من جرائم قبل القبول بدخول الحكومة ودعم حزب رئيس الوزراء.
وأعطى نتنياهو قيادة حرس الحدود لبن غفير ليفعل ما يراه مناسباً، علماً أن هذه هي القوة الرئيسية التي تنتشر على جميع الحواجز والمستوطنات داخل الضفة وحولها والتي تشارك في الهجوم على مخيماتها بالإضافة إلى قوات المستعربين والجيش وآخَرين من القوات الخاصة.
وكذلك أطلق نتنياهو يدَ وزير المال المتطرف سموتريش ليحجز الأموال ويقوّض قدرات السلطة الفلسطينية والاقتصاد الفلسطيني ويتسبب بشبه انهيارٍ لجميع قطاعاته وليرتفع معدل البطالة في شكل مقلق.
ولا يوجد سبب عسكري لتدمير الطرق داخل المخيمات التي تدور فيها العمليات العسكرية في الضفة ولا لقطْع التيار الكهربائي والمياه سوى التعامل معها مثل غزة لتحويلها منطقة منكوبة وغير صالحة للسكن خصوصاً إذا دخل جيش الاحتلال إلى المستشفيات وبدأ بتدميرٍ ممنهج داخل المخيمات المستهدَفة بالدهم والاجتياح.
وتقع مخيمات جنين وطولكرم ونور شمس وبلاطة وحتى مركز السلطة الفلسطينية داخل «المنطقة أ» التي وضعها اتفاق أوسلو 1993 وأوسلو -2 1995 تحت السيطرة الأمنية الفلسطينية دون غيرها. إلا أن إسرائيل تدخل إلى هذه المخيمات من دون إذن ولا تنسيق، وتَقتل وتَعتقل مَن تريد لتصبح السلطة الفلسطينية منزوعةَ السلطة تماماً. وتالياً، فإن جميع المؤسسات التي بنتْها هذه السلطة معرّضة للتدمير تماماً.
ويَعتقد نتنياهو وحكومته أن الفرصة مناسبة - ما دام الغرب أطلق يده في غزة ولم يحاسبه على قتل 40 ألف فلسطيني في القطاع وجرح أكثر من 130 ألفاً - لإطلاق عمليات عسكرية في الضفة، خصوصاً أن الحل العسكري يساعده على اكتساب أصوات داخلية تدعم سياسته وحزبه.
وكانت الإحصاءات الإسرائيلية أشارت إلى أن نتنياهو يتمتع بدعم غير مسبوق منذ أن هاجم ضاحية بيروت الجنوبية وطهران وضرب اليمن ودمّر غزة لترتفع أسهمه السياسية ويتفوّق على جميع خصومه السياسيين.
تالياً فإن الاستمرار بالحرب على جبهات عدة يعطي رئيس الوزراء الفرصة للبقاء في الحُكْم إلى حين انتهاء المدة المتبقية له حتى أكتوبر 2026 أو الذهاب إلى انتخابات مبكّرة فقط حين يضمن فوزه من جديد. ولذلك هو يحتاج لإبقاء إسرائيل في حال حرب، خصوصاً أن الإدارة الأميركية ستدخل قريباً في «غيبوبة» الانتخابات الرئاسية حتى ولو كانت تدعمه عسكرياً وسياسياً على الرغم من الاختلافات البسيطة بين الطرفين والتي لم تُفْسِد يوماً استمرارَ تدفق السلاح والذخائر لتل أبيب.
لذلك، فإن الوضع الفلسطيني اليوم أصبح يُشْبِه الوضع الذي عاشته فلسطين عام 1931 عند بروز عصابات «ليهي» و«سترن» التي بدأت بقتل العرب وانتهت بمجازر وتشريد مئات الآلاف ونقْل عدد كبير من الفلسطينيين إلى غزة. وقد ارتفع عدد المستوطنين من 127.000 عام 1993 عند توقيع اتفاق أوسلو إلى 750.000 اليوم، وهم في ازدياد متواصل رغم نداءات الدول الغربية الحليفة لإسرائيل لوقف الاستيطان غير الشرعي على أراضي الفلسطينيين.
أما اليوم، فإن قطعان المستوطنين أصبحوا أكثر تدريباً وتسليحاً وحمايةً من الحكومة الإسرائيلية التي تدعمهم ولا تحاسبهم على قتل أي فلسطيني ما دام هذا يخدم خطة الحكومة الحالية بإنهاء وجود أصحاب الأرض وتهجيرهم تحت أعذار مختلفة. وتدّعي الحكومة الإسرائيلية أن الفلسطينيين يهرّبون السلاح أو يستفيدون من الدعم الإيراني - كما زعم وزير الخارجية إسرائيل كاتس - وهي رسالة للعالم الغربي بألّا يتدخل بما نفعله في الضفة، وهو الهدف النهائي الذي يلتقي عليه السياسيون المتطرّفون والمعارضة والمتدينون الوطنيون والعلمانيون في إسرائيل ومن دون تمييز.