لكل من إسرائيل ولبنان والعراق واليمن وإيران
«لعنة الجغرافيا» في حسابات الحرب الكبرى
تلعب الجغرافيا، التي يُنظر إليها غالباً باعتبارها عاملاَ ثابتاً يحدّد مصير الأمة، دوراً محورياً في الاعتبارات العسكرية الإستراتيجية لدول الشرق الأوسط.
وتتفاقم تعقيدات الجغرافيا السياسية في هذه المنطقة بسبب التحديات الجغرافية الفريدة التي تواجهها، إسرائيل وإيران والعراق واليمن، ولبنان، الذي يقع على عاتقه العبء الأكبر في «محور المقاومة».
وكل من هذه الدول، إما تعوقها الجغرافيا، وإما تستفيد من واقعها الجغرافي ما يؤثر على إستراتيجيتها العسكرية ويكشف نقاط ضعفها.
إسرائيل ولعنة الجغرافيا
تبلغ مساحة فلسطين المحتلة من قِبل إسرائيل 22.145 كيلومتر مربع وتشترك في الحدود مع لبنان إلى الشمال وسورية إلى الشمال الشرقي والأردن إلى الشرق ومصر إلى الجنوب الغربي.
وتتباهى إسرائيل بأنها تملك واحدةٌ من أكثر القوات العسكرية تقدّماً من الناحية التكنولوجية في العالم، وبأن جيشها هو الأقوى في الشرق الأوسط ومن الأقوى في العالم.
وتشمل ترسانتها الدفاعية «القبة الحديدية» و«مقلاع داوود» وأنظمة الدفاع الصاروخي «آرو» و«حيتس» وغيرها. أما قواتها الجوية فهي مجهّزة بأكثر المقاتلات الأميركية تطوّراً بما يَضمن لها الهيمنة الجوية.
إلا أن حجم إسرائيل الصغير يجْعلها عرضةً في شكل كبير للهجمات المركّزة، إذ يمكن إطلاق الصواريخ من الأراضي اللبنانية المجاورة لتصل بسهولة وسرعة إلى المدن والقواعد الإسرائيلية، ما يستلزم وجود نظام دفاعي صاروخي سريع الاستجابة وفعال للغاية.
أما الكثافة السكانية العالية وتركيز البنية التحتية خصوصاً في الشمال المحاذي للبنان، وَضَعَ إسرائيل في موقع حَرِج. فلم تعتقد يوماً أن لبنان سيشكل خطراً عليها. ولذلك حصرت غالبية مصانعها وثكنها العسكرية وقواعدها الجوية والبحرية ومطاراتها ضمن مساحة قريبة جداً من الحدود اللبنانية، الأمر الذي عرّضها لخطر أكبر بعد امتلاك «حزب الله» القدرات الصاروخية والمسيَّرات المتقدمة والقدرات الإلكترونية التي تستطيع إلحاق «أذى كبير» في بنيتها التحتية المدنية والعسكرية.
وهذه هي لعنة الجغرافيا بمساحتها الصغيرة والكثافة السكانية المركّزة العالية وتَعاظُم قدرة عدوّها اللدود اللبناني.
التحدي الذي تواجهه إيران
تبلغ مساحة إيران 1.648 مليون كيلومتر مربع ما يَجعلها الدولة الـ 17 من حيث المساحة في العالم. وتحدّها أرمينيا وأذربيجان وأفغانستان وباكستان وتركيا والعراق ولها سواحل على طول بحر قزوين والخليج. وتحتفظ بترسانة صاروخية ضخمة لتغطية نقص سلاح الجو. وتملك صواريخ يصل مداها إلى أكثر من 1700 كيلومتر والتي تستطيع ضرْب أي مكان في جغرافيا إسرائيل الصغيرة.
لدى طهران صاروخ «شهاب 3» متوسط المدى، يصل مداه إلى 2000 كيلومتر، بحسب الطراز. و«قدر 110»، وهو النسخة المتطورة لـ «شهاب 3» وأكثر دقة وأعظم قدرة للحمولة التفجيرية. و«سجيل 2» الذي يعمل بالوقود الصلب ويحتاج لدقائق لإطلاقه ويصل إلى مسافة 2500 كيلومتر ويتميّز بتحسّن قدرته على الحركة والإطلاق. و«عماد 1» الذي يتميّز بدقة أكبر عن الصواريخ السابقة ولديه قدرة مناورة محسّنة ويصل مداه إلى 2000 كيلومتر.
وتملك طهران، أيضاً، ترسانة صاروخية كبيرة، ويشرف الحرس الثوري على برنامج الصواريخ الذي يشمل أيضاً صواريخ مجنّحة وطائرات مسيّرة حديثة ومتطورة جداً وأخرى فعالة وانتحارية.
وتمثّل المسافة البالغة 1700 كيلومتر إلى إسرائيل، تحدّياً لوجستياً وهي تسمح بالكشف المبكر واعتراض الصواريخ من أنظمة الدفاع الإسرائيلية، إلا إذا تزامن إطلاق الصواريخ وتوقيت وصولها مع إغراق المنظومة الإسرائيلية بصواريخ أصغر توجِد ممراً للصواريخ البالستية الإيرانية حين وصولها إلى هدفها بعد خروجها نحو الغلاف الجوي لتنقضّ على المواقع المستهدَفة.
وتمثل جغرافية إيران الكبيرة تحدياً للجمهورية الإسلامية لحماية أراضيها من أي تسلّل قادم من أي جهةٍ كانت. وهذا ما يعطي إسرائيل وأميركا القدرةَ على تسجيل اختراقٍ للمساحة الإيرانية الضخمة.
لذا فإن طهران تسعى للحصول على نظام إلكتروني روسي متقدّم لتشويش أنظمة الصواريخ الغربية - الإسرائيلية الآتية في حال قررت تل أبيب الرد على الضربة الموعودة بعد اغتيال زعيم «حماس» إسماعيل هنية في طهران والتزام الأخيرة بالردّ الحاسم.
وتشكل الأنظمة الصاروخية، «قبةً حديد» اعتراضية للصواريخ الإيرانية المنطلقة قبل وصولها إلى إسرائيل ما يشكل تحدياً أمام إيذاء الكيان الصهيوني وتلقينه درساً، كما ترغب طهران.
التحديات العراقية
تبلغ مساحة العراق 437.072 كيلومتر مربع ويشترك في الحدود مع تركيا وإيران والكويت والسعودية والأردن وسورية. وتختلف المسافة بين العراق وإسرائيل تبعاً للمواقع المحدَّدة التي يتم قياسها، وهي تبلغ بين 800 إلى 1000 كيلومتر. إلا أن عدم الاستقرار السياسي الداخلي والخلاف حول الوجود الأميركي في البلاد يقلّل من فعالية دور المقاومة العراقية بالمشاركة في ضرب إسرائيل.
بالإضافة إلى ذلك، فإن التمركز العسكري الأميركي في العراق وشمال سورية وفي الأردن، يعطي الولايات المتحدة القدرةَ على تدمير الصواريخ والمسّيرات المنطلقة في اتجاه إسرائيل.
الجغرافيا اليمنية
تبلغ مساحة اليمن 527.968 كيلومتر مربع وتحدّه السعودية وسلطنة عُمان مع خطوط ساحلية على طول البحر الأحمر وبحر العرب، ويبعد نحو 1600 إلى 2000 كيلومتر عن إسرائيل.
وتمتلك حركة «أنصارالله» الحوثية، صواريخ متطوّرة ومسيّرات متعددة بسبب تبادل الخبرات والتكنولوجيا مع إيران منذ أعوام.
كما يملك الحوثيون، صواريخ «بركان 2H» وهي نسخة متطورة عن «سكود» ويصل مداها إلى 2000 كيلومتر. و«سومار» وهو صاروخ مجنّح يصل مداه إلى 2500 كيلومتر، و«فلسطين» الذي يصل مداه إلى 1400 كيلومتر مع إمكان إعادة تشكيل الصاروخ لتعزيز مداه.
وهذه المسافة الكبيرة تحدّ من القدرة على شنّ هجمات مباشرة، ما يضع الصواريخ والمسيّرات الحوثية تحت رحمة الصواريخ الاعتراضية.
لعنة لبنان الكبرى
لبنان يُعد أصغر أعضاء «محور المقاومة»، إذ تبلغ مساحته 10452 كيلومتراً مربعاً ويحده من الشمال والشرق سورية، ومن الجنوب فلسطين المحتلة (إسرائيل). ويملك قدرة عسكرية متواضعة جداً.
إلا أن «حزب الله» المدعوم من إيران يملك ترسانة تضم أكثر من 250.000 صاروخ، بحسب التقديرات الإسرائيلية، تستطيع الوصول إلى أي نقطة تسيطر عليها إسرائيل، ما يسمح بتبادُلٍ سريعٍ ومدمّرٍ للنيران، بالإضافة إلى أن المناطق والبيئة الحاضنة للحزب معرّضة بشدة للضربات الانتقامية.
وتتمثل لعنة الجغرافيا بالنسبة إلى لبنان في صغر مساحته لأن أي اشتباكٍ عسكري كبير قد يترك آثاراً واسعة النطاق ومدمّرة على البنية التحتية وسكانه المدنيين.
إلا أن الحزب طوّر قدراته العسكرية والصاروخية بما فيها المسيّرات ليتمكن من بلوغ أي نقطة تسيطر عليها إسرائيل ويضربها بدقة تدميرية عظيمة إذا أراد، ليس ليوجِد توازناً مع كيانٍ متفوّق عسكرياً، بل ليقنع إسرائيل بالعدول عن ضربه بقوة كي لا تَسقط كل المعادلات.
وبسبب المسافة «شبه صفر» بين لبنان وإسرائيل، فإنه يقع على الحزب تحمُّل عبء الجزء الأكبر من المعركة الحالية - وكذلك الآتية - إذا تطورت نحو التصعيد الأكبر.
فقد أعلن الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله أن «فلسطين لن تبقى، وكذلك الأقصى، إذا انتصرتْ إسرائيل» وان «المقاومة في غزة لن تُهزم» وانه «واجب أخلاقي وإنساني ووطني وديني وشرعي دعم فلسطين».
إلا أن ذلك يتعارض بشده مع أهداف إسرائيل، ولا يمكن لقيادتها أن تَعدل عن أهدافها التي رسمها رئيس وزرائها إلا بالقوة العسكرية.
وبما أن «إسرائيل تقاتل بلا قواعد ولا ضوابط ولا خطوط حمر»، كما أكد السيد نصرالله، فإن من الصعب تفادي الحرب الكبرى على المدى المتوسط والبعيد والتي يقع عاتقها الأكبر على لبنان بالدرجة الأولى وعلى جزء من سكانه من البيئة الداعمة للمقاومة وبنيته التحتية.
ومن الطبيعي أن يكون «حساب الحرب الواسعة معقّد وكبير» (حسب الأمين العام) على الطرفين في لبنان وإسرائيل.
إلا أن بنيامين نتنياهو أثبت أن بقاءه في الحُكم فوق أي اعتبار وأنه لا يبالي بتوسّع الحرب ما دام يجرّ خلفه أقوى دولة في العالم، أميركا، والتي تأتي بتحالف دولي معها إلى كل حروبها، لتشكّل «قبة حديد» لإسرائيل وتشاركها في حروبها شاءت أم أبت.
وتالياً، فإن اللعنة الجغرافية الكبرى تقع على لبنان وإسرائيل، كل لأسبابه، وان «حلف المقاومة» يعمل للتغلّب على المسافات الشاسعة بالعمل على تطوير تكنولوجيا الصواريخ البالستية والاستثمار بالأعمال السرية وتكتيكات الحرب لتقريب الهوة وإيجاد توازن مقبول لأن الحرب الشاملة على إسرائيل تعني الحرب على أميركا أيضاً.
وهذا لا يخيف المقاومة ولكن يدفعها لفرض «توازن الردع والرعب» لمنْع تطور الحرب. ومن هنا فإن لعنة الجغرافيا توجِد شبكة معقّدة من التحديات والفرص الإستراتيجية للدول المتورّطة في الصراع.