طغى تنحي الرئيس جو بايدن، الذي عزف عن خوض الانتخابات الرئاسية في وجه دونالد ترامب، في الخامس من نوفمبر المقبل على حدث كبير آخر. كان ذلك الحدث الضربة الإسرائيليّة التي استهدفت ميناء الحديدة اليمني الذي يسيطر عليه الحوثيون. للميناء الذي دمرت خزانات النفط فيه ومصفاة أهمّية بالغة بالنسبة إلى الحوثيين الذين ليسوا سوى أداة إيرانيّة لا أكثر والذين وضعوا يدهم على صنعاء منذ 21 سبتمبر 2014. يبدو حجم الضربة الإسرائيلية كبيراً ويبدو أن اليمني العادي سيعاني جراء هذه الضربة.
جاءت الضربة الإسرائيليّة بعد ساعات من اختراق مسيّرة تابعة للحوثيين أجواء تل أبيب، وإصابتها مجمعاً سكنياً كبيراً ليس بعيداً عن المقرّ السابق للسفارة الأميركية التي نقلها ترامب إلى القدس بصفة كونها «العاصمة الموحدة» لإسرائيل. أدى اختراق المسيّرة لتل أبيب إلى سقوط قتيل بما يدلّ على أن لا مكان آمناً في إسرائيل في الحرب التي تخوضها مع إيران منذ هجوم «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر 2023.
توجد حرب إيرانيّة – إسرائيلية على هامش حرب غزّة. ليس سرّاً أنّه ما كان لـ«حزب الله» في لبنان فتح جبهة الجنوب لولا وجود قرار إيراني بذلك. في الواقع، ردت «الجمهوريّة الإسلاميّة»، عبر «طوفان الأقصى» الذي كان نتيجة تنسيق بينها وبين فريق في «حماس»، على هجمات إسرائيليّة داخل «الجمهوريّة الإسلاميّة» استهدفت علماء كبار ومنشآت حيوية.
أكدت إيران لإسرائيل أن في استطاعتها هي الأخرى توجيه ضربات في الداخل وجعل كلّ إسرائيلي يفكّر في الهجرة من الدولة العبريّة، عندما لا تعود تل أبيب آمنة، معنى ذلك أنّ الكيان الإسرائيلي اهتز من داخل، بل اهتزت الأسس التي قام عليها كي يكون «ملجأ» لليهود من مختلف انحاء العالم.
ردت إسرائيل بوحشية على ما تتعرّض له منذ حصول «طوفان الأقصى». يدفع الثمن أهل غزّة التي أزيلت عملياً من الوجود.
من السهل الكلام عن صمود «حماس» في غزّة، لكن من الصعب أخذ العلم بحجم الأضرار التي لحقت بالقطاع الذي لا تتجاوز مساحته 365 كيلومتراً مربعاً وعدد سكانه نحو مليونين ونصف المليون تقريباً!
من السهل الكلام أيضاً عن وجود نحو 60 ألف إسرائيلي خارج بيوتهم في مناطق محاذية للحدود مع لبنان بعدما قرّر الحزب «إسناد غزّة»، لكن الصعب الاعتراف بأنّ أكثرية اللبنانيين، من كل الطوائف والمناطق تقف ضدّ هذه الحرب التي أدت إلى تهجير نحو مئة ألف لبناني من بيوتهم وتدمير عشرات القرى ... من دون فائدة تذكر لغزة. الفائدة الوحيدة إيرانيّة ان«الجمهوريّة الإسلاميّة» تريد تأكيد أنّها اللاعب الأساسي في المنطقة، أي في الشرق الأوسط والخليج، وأنّ لا بحث في مستقبل تلك المنطقة بمعزل عنها.
لا يمكن الاستهانة بالخسائر التي لحقت باليمن وبالحوثيين الذين يؤمن لهم ميناء الحديدة موارد كبيرة. كذلك، لا يمكن الاستخفاف بالأضرار التي لحقت بجنوب لبنان حيث فرض «حزب الله» تعتيماً شبه كامل على التغطية الصحافيّة للدمار الذي لحق بقرى معيّنة تحتاج إلى إعادة إعمار شاملة من دون وجود جهة مستعدة لذلك حتّى لو توقفت حرب غزّة وحرب إسرائيل على «حزب الله». هذه حرب تصرّ الدولة العبريّة على أن حساباتها باتت منفصلة عن حسابات حرب غزّة خلافاً لما تراه إيران...
من اللافت في المرحلة الراهنة وجود تصعيد إسرائيلي وآخر إيراني. يعود التصعيد الإسرائيلي إلى أن بنيامين نتنياهو، الذي ربط مصيره السياسي باستمرار الحرب بات يشعر بأنّه طليق اليدين في غياب أي وجود لرئيس أميركي فعال يمتلك صفات قيادية. بات جو بايدن، من الماضي. في انتظار عودة دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض، لدى «بيبي» كل الوقت لممارسة وحشيته في غياب امتلاكه لأي مشروع سياسي قابل للحياة. إنّّه سياسي إسرائيلي يتميز بالعقم على كلّ المستويات، خصوصاً أنّه يتجاهل وجود شعب فلسطيني على أرض فلسطين لا يمكن التخلّص منه بأي شكل.
في المقابل، ليس أمام «الجمهوريّة الإسلاميّة» غير التصعيد في كلّ الاتجاهات. ليس صدفة أنّ الهجوم الحوثي الذي استهدف تل أبيب ترافق مع حملة شنها عبد الملك الحوثي، على المملكة العربيّة السعوديّة مطلقاً تهديدات فارغة وافتراءات لأسباب مرتبطة بإجراءات اتخذت على صعيد النشاط المصرفي في داخل اليمن.
من الواضح أن إيران، في سياق التصعيد الذي تمارسه، غير مهتمة بمصير المواطن اللبناني واليمني والعراقي والسوري. تمتلك أدوات محليّة، في هذه الدولة العربيّة أو تلك، وهي أدوات مستعدة لأن تفعل لها ما تشاء، بما في ذلك شنّ حملة شعواء على المملكة العربيّة السعوديّة التي سعت إلى احتواء حرب غزّة ولم توفّر جهداً في هذا المجال. ما الذي ستفعله إيران مستقبلاً في حال إصرارها على تهييج الميليشيات العراقيّة التي تبدو مصرّة على تنفيذ عمليات معيّنة تستهدف إسرائيل؟ هل يهمّ «الجمهوريّة الإسلاميّة» في شيء تنفيذ الدولة العبريّة لتهديدات من نوع تكرار تجربة الحديدة في البصرة؟
تبدو المنطقة مقبلة على أشهر في غاية الصعوبة، خصوصاً أن لا قيود أميركيّة من أي نوع على رئيس الحكومة الإسرائيلية من جهة وأنّ لا أفق أمام المشروع التوسّعي الإيراني باستثناء أفق تكريس امتلاك أوراق عربيّة تسمح بصفقة مع أميركا من جهة أخرى.
هل أميركا في العهد الجديد لدونالد ترامب ستكون أكثر استعداداً لمثل هذه الصفقة... أم كلّ ما في الأمر أن إيران، مثل إسرائيل تواجه باباً مسدوداً سياسياً يعبر عنه الحدث اليمني المتمثل بما حدث في الحديدة؟