الرأي اليوم
رسالة إلى خالد مشعل
تحيّة فلسطين، قضية العرب المركزية وقضية العالم الحرّ الإنساني وقضية الحقّ لمن أراد اتباعه.
نعبُر الشهر التاسع للمحرقة التي يرتكبها الإسرائيليون أمام سمع العالم وبصره، وفلسطين هي الهواء الذي نتنفّسه ويحتلّ يومياتنا. ننام على صورة طفل استشهد من الجوع ونصحو على صورة كهل تحت ركام بيته، وتعبُر نهاراتنا مع المُهجّرين العابرين من الشمال إلى الجنوب، وتحكي مساءاتنا قصص عجزنا فيما نحكي لأولادنا وأحفادنا قصص الصمود والبطولة ضد أقذر مُحتلّ في التاريخ.
أخي خالد مشعل... أبو الوليد
أخاطبك من الكويت التي ترعرعت فيها ونشأت ودرست. كان الزمان مُختلفاً بروحه ونقائه فلم نعرف يومها إلا أنك ابن الكويت مثلما كنّا في الصف نعتبر أنفسنا أبناء فلسطين.
قرأت تصريحك الأخير وفيه أن «غزة تدمّرت تماماً، وهذا ثمن المُقاومة وأثمان المُقاومة كبيرة جداً»، وأن على الجميع «الانخراط في القتال وليس غزة وحدها»، وأن «إعادة ترتيب البيت الفلسطيني استحقاق حتميّ لا يُمكن الهروب منه ولا يجب الانتظار لنهاية المعركة لترتيب البيت الفلسطيني».
أخي أبو الوليد وأنت زميل دراسة لي في الكويت وأعرف عن قرب التزامك الكبير بقضية فلسطين، اسمح لي وسط هذا الرماد المُنتشر في الخرائط الجُغرافيّة والنفسيّة أن أخاطبك بالتالي:
غزة دُمّرت بالكامل، لكن تدمير الحجر لا يعني تدمير البشر. فقدنا أرواحاً كثيرة لكن كلّ روح أُزهقت تُعادل كلّ البنيان الذي تدمّر. الدم لا يتساوى مع الإسمنت، ولنتّفق أنه طالما هناك قلب ينبض في غزة فغزة باقية، وطالما هناك إرادة تحرير ففلسطين باقية.
إعادة الإعمار هي الأمر الأسهل في الموضوع لأنها خاضعة لأرقام المال والحسابات السياسية والمصالح بين المنطقة والعالم، أما أرقام الشهداء والمُصابين والمُتضرّرين والمُختفين والمُعتقلين فهي التي تحفر حتى صخر الصمت وتخرج منه الدمع عنوة. وسيعود مُهجّرو منافي الصحارى والخيام إلى منازلهم بعد إعمارها... ويكفي أن منزلتهم راسخة في كُلّ قلب ينبض باسم فلسطين.
أخي خالد
نأتي إلى النقطة الثانية في تصريحك وهي تتعلّق بالأثمان. صحيح أن من يده في النار ليس كمن يده في الماء، وأهل فلسطين أدرى بشعابها. وكانت لكم تصريحات كثيرة في بداية المعركة قلتم فيها إن كل شيء محسوب ومدروس، فهل كان حجم الثمن كما توقّعتم أم أنه كان أكبر؟ وهل بُنيت حسابات المعركة على تقديرات خاطئة؟ وهل كان هناك وهم لدى البعض عن حجم الوحشية الإسرائيلية التي فاقت النازية والدعم الدولي لهذا الكيان الغاصب؟ في المفاصل التاريخية القيادة تقدير والقيادة قرار... وأهم ما في التقدير والقرار مصلحة القضية وناسها.
وفي النقطة الثالثة، وهي دعوة الجميع للانخراط في الحرب وليس غزة وحدها وهو كلام طبيعي ومنطقي، ولكن من باب المحبّة نسأل: هل تم أولاً التنسيق مع شريكك في الوطن حول عمل كبير مثل 7 أكتوبر سينتج عنه حرب إبادة كما نراها أم أنك تطلب منه المشاركة في درء النتائج؟ هل تم التنسيق مع الحاضنة العربية التي ما تخلّت يوماً عن فلسطين رغم كلّ الكلام المعروفة مصادره لإحداث شرخ بين العرب وأصحاب القضية الأساسيين؟ وما هو رأيك في التصريحات التي تنطلق من مسؤولين إقليميين مفادها أن ما حصل كان ضرورياً لوقف مسارات مُعيّنة في المنطقة وإجهاض تفاهمات جديدة عربية دولية؟ هذه أمور أنتم تعرفون ونحن نعرف أنها تضرب قواعد الإجماع وتُشتّت المشاريع وتدفع بعوامل الخشية والحذر إلى التقدّم خوفاً من أجندات أخرى في الموضوع.
النقطة الرابعة هنا مُرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالنقطة الثالثة في حديثك وهي ضرورة ترتيب البيت الفلسطيني حتى قبل انتهاء معركة غزة، وهنا أخي أبو الوليد ليتّسع صدرك قليلاً لبعض الكلام.
ما دام المُجتمع الإسرائيلي وقت الخطر يلتفّ حول هدف واحد مهما تعدّدت الآراء فإسرائيل تحظى بعامل قوة إضافي، وما دام أصحاب القضية والأرض مُتفرّقين في جهات عدة ففلسطين تخسر كل يوم حتى من دون حرب، وإذا استمر الأمر كذلك فلن تعود فلسطين.
لا نريد استرجاع الماضي بين حماس والسلطة الفلسطينية ولا استذكار انتهاك المُحرّمات بالصدامات الدموية التي حصلت، ولا العودة إلى صورة القسم عند الكعبة المُشرّفة التي تبخّرت بعد 24 ساعة. نريد أن نقول إن السلطة وحماس جهتان أساسيّتان تختلفان فكرياً وأيديولوجياً ربما بنسبة 99 في المئة إنما يبقى هناك نقطة واحدة على الأقل للاتفاق حولها، فليبدأ العمل من هذه النقطة ولتكن هناك إرادة حقيقيّة بعيداً من العواطف والشعارات للبناء على المُتّفقات بنداً بعد بند.
لنكن صريحين أكثر، فلسطين من الصعب أن تعود وحالة الانقسام الداخلي والعربي تتشظّى أفقيّاً وعموديّاً، بدل التركيز على مشروع الدولة ننقسم إلى فريق مُؤيّد للسلطة يُحمّلكم تبعات الأخطاء ويُشكّك في تنفيذكم لأجندات إقليمية وفريق مُؤيّد لكم ويُوجّه كلّ النّقد للسلطة الفلسطينيّة بل ويخونها ويعتبر أنها تُساعد المُحتلّ. ولذلك فموضوع ترتيب البيت الفلسطيني التي وردت في تصريحكم كانت الأهم في هذا السياق ليس للمصالحة مع شريك الوطن فحسب بل للاتفاق على مشروع الدولة الفلسطينية... ومن دون هذا الاتفاق فلا مشروع ولا دولة.
وفّقكم الله ونصر فلسطين وأهلها وأرضها وكتب لنا ومعكم صلاة في أولى القبلتين وثالث الحرمين في القريب العاجل.