إسرائيل منقسمة بين إنهاء الحرب على غزة... والاحتياجات الدفاعية

رجل إطفاء إسرائيلي ومدني على الأرض بينما تنطلق صفارات الإنذار تحذيراً من الصواريخ الآتية من لبنان (رويترز)
رجل إطفاء إسرائيلي ومدني على الأرض بينما تنطلق صفارات الإنذار تحذيراً من الصواريخ الآتية من لبنان (رويترز)
تصغير
تكبير

تتصارع الحكومةُ الإسرائيلية مع مَشهد سياسي معقّد أبرزتْه قضايا مهمة: الحرب على غزة، والتهديد الذي يلوح في الأفق بحرب محتملة على لبنان، ونقص المجنّدين في الجيش.

على الصعيد المحلي، تتمثّل القضايا المُلِحّة الرئيسية في تمديد سن التقاعد لجنود الاحتياط في الجيش الإسرائيلي والتقدّم بمشروع قانون لخفض سن الإعفاء من الخدمة العسكرية لطلاب المدارس الدينية الحريدية. وقد أثارتْ هذه الإجراءات جدلاً كبيراً، وكشفت عن توترات عميقة داخل المجتمع الإسرائيلي وقيادته السياسية. كما أنها تمنع إسرائيل من شن حرب جديدة على لبنان أو حتى مواصلة الحرب على غزة. لكنها تشير أيضاً إلى أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ينوي تقليص النشاط العسكري لقواته في غزة والانتقال إلى مرحلة يمكنه فيها تنفيذ غارات بناء على معلومات استخباراتية.

ومن هنا، يبدو أن المعاركَ المختلفةَ الدائرةَ في مختلف أنحاء قطاع غزة تدخل مرحلة جديدة، حيث أدى تدمير القطاع والقتْل الجَماعي للمدنيين إلى فقدان إسرائيل زخْمها وفشلها في تحقيق أي هدف. والحقيقة أن رئيس الأركان هيرتسي هاليفي اقترح على القيادة السياسية أن تعلن النصر وأن تُنْهي الحرب وإلا فقدتْ إنجازاتها التكتيكية.

وأكسبت حرب نتنياهو إسرائيل مكانة «الإرهاب» كما أعلن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، ما دفع رئيس الوزراء للرد بأن «الأمم المتحدة وضعت نفسها على القائمة السوداء للتاريخ».

وقد استحقتْ إسرائيل هذا اللقب بحق، حيث قتل جيشها 15517 طفلاً في غزة، وفق وزارة الصحة.

وتم التحقق من نحو 8000 من هذه الوفيات من الأمم المتحدة، فيما لايزال الكثير منهم في عداد المفقودين. كما فَقَدَ نحو 17.000 طفل أحد والديهم على الأقل، وخسر 3000 آخرين طرفاً واحداً على الأقل. ووفق اليونيسيف، يعاني تسعة من كل عشرة أطفال في غزة «سوء التغذية الحاد».

ووجدت منظمة الصحة العالمية أن أربعة من كل خمسة أطفال يظلون من دون طعام لمدة يوم واحد على الأقل من كل ثلاثة. وفي يناير الماضي، وجدت منظمة إنقاذ الطفولة الخيرية الدولية أن عشرة أطفال يفقدون طرفاً واحداً على الأقل كل يوم، فيما أظهرت مقاطع فيديو إعلامية صبيا يسأل والدته عما إذا كانت ذراعه ستنمو مرة أخرى.

وحتى لو كان المانحون الأجانب كرماء تجاه الفلسطينيين وكانت عشرات المليارات من الدولارات جاهزة على الطاولة، فإن غزة تحتاج إلى ما بين 10 إلى 20 سنة لإعادة إعمار ما دمّرته إسرائيل في نحو تسعة أشهر، هذا فقط إذا سمحت إسرائيل بدخول ما يكفي من مواد البناء إلى القطاع. علماً أن تل أبيب تضع عدة آلاف من مواد البناء على «لائحتها السوداء للاستخدام المزدوج»، بدعوى أن المقاومة الفلسطينية يمكنها استخدام مكوّنات لتصنيع صواريخها.

ورغم كل الدمار والقتل الذي تعرّض له الفلسطينيون الذين سقط منهم أكثر من 38 ألف شخص، غالبيتهم من المدنيين، فيما الآلاف تحت الأنقاض، فإن نتنياهو مُتَّهَم بخوض حرب شخصية من أجل الاحتفاظ بموقعه في السلطة. واعترف المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاغاري، بأن استعادة الأسرى «لن يتم تحقيقها بالوسائل العسكرية»، ما يشير إلى أن أهداف نتنياهو المحدَّدة غير قابلة للتحقيق.

وهذا الاعتراف بالواقع يحرم نتنياهو أي مبرر لمواصلة حربه المدمّرة إذا كان هدفه حقاً هو استعادة الأسرى، ناهيك عن أنه فشل في هزيمة حماس.

فالمقاومة الفلسطينية تعاود تنظيم نفسها في كل منطقة من مناطق غزة مباشرةً بعد انسحاب القوات الإسرائيلية التي تتكبد خسائر فادحة يومياً أثناء قيامها بعملياتها العسكرية في القطاع.

وتَظْهَر على الجيش علاماتُ الإرهاق والتعب، مع أملٍ ضئيل في أن يستقبل رئيس الأركان أي مجنّدين.

ويحتاج هاليفي إلى 15 كتيبة إضافية و50 ألف جندي احتياطي لمواجهة التحدي الذي تمثّله المقاومة في غزة والتهديد المحتمَل على الجبهة اللبنانية. وبما أن حكومة نتنياهو غير راغبة في تقديم المزيد من القوات، فإن التخفيض الكبير في الأعمال العدائية العسكرية يبدو الخيارَ الوحيد المتبقي.

وقررت الحكومة الإسرائيلية تجنيد 3000 فقط من بين الحريديم المتشدّدين عندما كان الطلبُ لا يقلّ عن 7000. وبحث مجلس الوزراء الإسرائيلي تمديد قانون الطوارئ لرفْع سن التقاعد لجنود الاحتياط في جيش الدفاع الإسرائيلي.

ومن المقرَّر أن ينتهي هذا القانون نهاية الشهر، وسيزيد سنّ الإعفاء للخدمة العسكرية الاحتياطية من 40 إلى 41 عاماً للجنود، ومن 45 إلى 46 عاماً للضباط، ومن 49 إلى 50 عاماً للمتخصصين مثل الأطباء وأطقم الطائرات. وتبرر وزارة الدفاع هذا التمديد من خلال الإشارة إلى ارتفاع معدل الضحايا في غزة، الأمر الذي يتطلب الاحتفاظ بأفراد ذوي خبرة للحفاظ على الفعالية العملياتية.

جدل حول «الإعفاء الحريدي»

تقدم الحكومة الإسرائيلية مشروع قانون لخفض سن الإعفاء لطلاب المدارس الدينية الحريدية من 26 إلى 21 عاماً، بهدف زيادة التجنيد الإجباري بين المجتمع الأرثوذكسي المتطرف تدريجياً. وتواجه هذه الخطوة رد فعل عنيفاً كبيراً. ويقول زعماء المعارضة إن مشروعَ القانون يقوّض مبدأ التزامات الخدمة المتساوية، ما يضع عبئاً غير عادل على أولئك الذين يخدمون. ويزعم المنتقدون أنه من خلال إعفاء الطلاب الحريديم مع تمديد متطلبات الخدمة للآخَرين، فإن الحكومة تخون جنود الجيش الإسرائيلي وجنود الاحتياط.

وانتقدت شخصيات معارضة بارزة، مثل يائير لابيد وأفيغدور ليبرمان، بشدّة تصرفات الحكومة، واتهمت الإدارة بإعطاء الأولوية للبقاء السياسي على الوحدة الوطنية والمعاملة العادلة للجنود.

كما أعرب وزير الدفاع يوآف غالانت عن معارضته، مشدداً على الحاجة إلى إجماع وطني واسع حول مثل هذه التغييرات المهمة، وسلّط الضوء على الانقسامات الداخلية داخل الائتلاف.

ويُنْظَر إلى تمديدِ خدمة الاحتياط على أنه أمر بالغ الأهمية للحفاظ على القدرات التشغيلية، خصوصاً في ضوء الصراعات المستمرة في غزة والتهديدات المحتملة من لبنان. وتسلط هذه الخطوة الضوء أيضاً على التوترات الاجتماعية الأوسع نطاقاً في ما يتعلق بدور المجتمع الحريدي والتوزيع العادل للواجبات الوطنية.

ويسلّط طلب الجيش إرسال كتائب إضافية وعشرات الآلاف من جنود الاحتياط الضوءَ أيضاً على الضرورة الإستراتيجية لتجديد الجيش وإعداده لمواصلة العمليات. ذلك أن العمليات القتالية المستمرة في غزة والتهديدات المحتملة من لبنان تتطلب جنوداً وضباطاً ذوي خبرة لإدارة هذه البيئات المعقّدة والشديدة الضغط بفعالية.

وأسفرت الحرب في غزة عن خسائر بشرية كبيرة، ما يستلزم تواجداً عسكرياً مستمرّاً لضمان الأمن والاستقرار. بالإضافة إلى ذلك، فإن التهديد الذي يشكله حزب الله في لبنان لايزال كبيراً، حيث تشكل الترسانة الضخمة التي يملكها الحزب من الصواريخ والميليشيا المدرَّبة تدريباً جيداً تهديداً خطيراً على الحدود الشمالية لإسرائيل.

ويبزر جانب متصل بأن العديد من جنود الاحتياط هم في مقتبل حياتهم المهنية المدنية ولديهم عائلات. وتعطّل الخدمة العسكرية الممتدة وظائفهم وتقدمهم الوظيفي وحياتهم الأسرية، ما يؤدي إلى ضغوط مالية وضغوط شخصية.

والتمديدُ المتزامن لخدمة الاحتياط والتقدّم بمشروع قانون الإعفاء الحريدي يوجِد تَصَوُّراً بعدم المساواة والظلم، ما يؤدي إلى الاستياء والانقسام داخل المجتمع الإسرائيلي. ويشكل مبدأ «العبء المشترك» أهمية مركزية في العقد الاجتماعي الإسرائيلي، حيث يُتوقع من كافة المواطنين أن يساهموا في الدفاع الوطني. والإعفاءات المتصوَّرة لمجموعات محدَّدة تقوّض هذا المبدأ ويمكن أن تؤدي إلى تآكل الثقة في الحكومة ومؤسساتها. وقد أثارت هذه الخطوة ردود فعل سياسية كبيرة، حيث اتهم زعماء المعارضة الحكومة بخيانة الجنود وإعطاء الأولوية للبقاء السياسي على المصالح الوطنية. وهذا يمكن أن يؤدي إلى زيادة الاستقطاب السياسي وعدم الاستقرار.

حكومة سياسية

ويؤشر حل نتنياهو للحكومة المصغرة، في أعقاب استقالة الوزيرين بيني غانتس وغادي أيزنكوت ومطالبة آخَرين بالانضمام إليها، إلى تحولات سياسية داخلية قد تشير إلى التحرك نحو اتفاق وقف إطلاق النار مع الفلسطينيين. والصراع الذي طال أمده في غزة، إلى جانب التهديدات المحتملة من الشمال، يسلط الضوء على الحاجة إلى قوة عسكرية قوية وجاهزة على الرغم من التحديات السياسية والاجتماعية المستمرة.

ويشير تشكيل نتنياهو «لحكومة سياسية» جديدة للتشاور، تضمّ وزير الدفاع يوآف غالانت، ووزير الإستراتيجية رون ديرمر، ووزير الأمن القومي يتساحي هنغبي - وجميعهم يدعمون خطة السلام الإسرائيلية الأميركية - إلى تحول محتمل نحو وقف إطلاق النار. وهذا يتناقض مع موقف وزير الأمن إيتمار بن غفير ووزير المال بتسلئيل سموتريتش، اللذين هددا بـالانسحاب من الحكومة إذا أَوْقَفَ نتنياهو الحرب.

وكان إعلان الجيش عن «وقف تكتيكي لإطلاق النار» في غزة، والذي أعقبه معاودة تأكيد أن «الحرب ستستمر»، قد أشعل جدلاً كبيراً وسلط الضوء على الانقسامات العميقة داخل القيادة السياسية الإسرائيلية. وهذا الإعلان، الذي صدر عبر وسائل الإعلام الرسمية، يوحي بموافقة نتنياهو، على الرغم من نفيه اللاحق وانتقادات بن غفير اللاذعة للقرار. وتصريح نتنياهو بأن «إسرائيل لديها حكومة بجيش وليس جيش بحكومة» يركّز الضوء على التوتر بين السلطة العسكرية والسلطة السياسية.

ومطالبة بن غفير باستقالة الشخص المسؤول عن قرار وقف إطلاق النار يسلّط الضوء على طبيعته الخطيرة وتداعياته المحتملة على الحكم الإسرائيلي والإستراتيجية العسكرية. ومع ذلك، فهو يشير إلى رغبة نتنياهو في متابعة وقف إطلاق النار مع ركود الحرب في غزة وفقدان القدرة على تحقيق هدفها الأوّلي.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي