«الراي» تُنَقِّب عن «تَوَحُّشِ» تل أبيب حيال المخزون التاريخي والتراثي بالأرقام والخلفيات
إسرائيل تشنّ «حرب إبادة» لن تُنسى ضدّ الذاكرة في جنوب لبنان
- حاراتٌ قديمة وبيوتاتها التراثية... مَعالم دينية ومغاور وكهوف وأشجار معمّرة تحوّلت أهدافاً لاعتداءات مُمَنْهَجَة
- الساحات العتيقة في القرى انقلبت رأساً على عقب وشرفاتها المطلّة من التاريخ صارت... أشلاء
لم يُنْصِتْ القادة اللبنانيون الذين يتناحرون بالسلاح الأبيض على حافة القصر الرئاسي المَسْكون بالفراغ لتحذيراتٍ واضحة أطلقها على مَسامعهم الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان من أن لبنان السياسي سيكون مهدَّداً بالزوال ما لم يتم انتخاب رئيس للجمهورية في وقت قريب.
ولن ترحمَ الذاكرةُ اللبنانيةُ مَن بيدهم الحلّ والربط في البلاد المتروكة بلا رأسٍ في اللحظة التي تُمارِسُ إسرائيل ما يشبه «حربَ إبادةٍ» ضدّ قرى الحافة الحدودية في الجنوب والتي يُراد جعْلها منطقةً ميتةً بلا حجر ولا بشر ولا شجر لا حتى ذاكرة، بعدما انقلبتْ ساحاتُ القرى العتيقة رأساً على عقب وتَهاوَتْ الشرفاتُ المطلّة من التاريخ.
حربٌ سياسيةٌ في الداخل جعلتْ رئاسةَ الجمهورية رهينةً لم تنفع في فكّ أسْرها لا مبادراتٌ محليةٌ ولا إقليمية ولا دولية، وحربٌ في جنوب الجنوب اقتيدَ معها لبنان مخفوراً إلى فم الموت والدمار والخراب على يد الوحش الاسرائيلي الكاسر الذي لم يَرْحَمْ حتى شتلةَ التبغ ولا أقفار النحل ولا زهر الليمون ولا الزيتون ولا المباني المتحدّرة من التاريخ العتيق.
ومنذ 8 أكتوبر، بات موثّقاً عدد المباني والمنازل التي تَهَدَّمتْ كلياً (أكثر من 1700) أو جزئياً (أكثر من 14 ألفاً) نتيجة الحرب الدائرة في جنوب لبنان والتي مازال «عدّادها» مفتوحاً على المزيد من الارتفاعات، وكذلك صارت هناك أرقامٌ، وإن كانت تتمدّد يومياً، للمساحات التي احترقت بفعل القصف بالقنابل الفوسفورية (15 مليوناً و700 ألف متر مربع)، ومعها آلاف أشجار الزيتون والسنديان والأشجار المثمرة والأراضي المزروعة بالحمضيات وأنواع عدة من الفاكهة.
لكن في موازاة هذه الأضرار والتي تتجاوز تَكلفتها حتى الآن في المباني والمؤسسات مليار دولار، ونحو 500 مليون دولار على صعيد البنية التحتية، في حين يُترك تقدير قيمة الأضرار الزراعية لِما بعد انتهاء الحرب، فإن ثمة واقعاً يتم إغفاله وقلّما يجري الحديثُ عنه وهو «مَحو» التراث الثقافي والطبيعي في البلدات والقرى الجنوبية «عن سابق تصوُّر وتصميم»، وإن لم تَطَلْ الاعتداءاتُ بشكل صارخ المَعالم الأثرية الكبرى التي تحميها اتفاقية جنيف.
الحارات القديمة وبيوتها التراثية، ساحات القرى العتيقة، المَعالم الدينية من مساجد وكنائس ومقامات للأولياء والقديسين، تعرّضت كلها لاستهدافات مُمَنْهَجَة وأضرار جسيمة. وإلى هذه اللائحة الداكنة تضاف مَغاور طبيعية وكهوف تتجذّر عميقاً في التاريخ وأشجارٌ معمّرة تعود الى حقبات تاريخية بعيدة لم تنجُ من آلة الدمار الإسرائيلية.
يملك جنوب لبنان مخزوناً تاريخياً وأثرياً وطبيعياً يعادل المخزونَ الموجود على مجمل الأراضي اللبنانية، رغم كونه لا يمثّل أكثر من 5 في المئة من مساحة «بلاد الأرز» وفق ما يشرح عالم الآثار والأستاذ الجامعي المحاضر في كلية السياحة وإدارة الفنادق في الجامعة اللبنانية جعفر فضل الله.
10 قلاع أثَرية
ففي الجنوب مثلاً 10 قلاع أثَرية تعود الى حقبات مختلفة، مثل قلعة دير كيفا، قلعة شمع، قلعة الشقيف، قلعة تبنين، وقلعة دوبيه، وبقايا قلاع تتوزع في أرجائه. وما يُعرف اليوم بالشريط الحدودي كان بفعل موقعه الاستراتيجي المطلّ على سورية وفلسطين والبحر المتوسط ممراً لقوافل الرومان والبيزنطيين والصليبيين وقبلهم الكنعانيون، وكلهم تركوا آثاراً في أرضه. وفي قرى يارون وعيترون وحولا آثار تعود الى الفترات الرومانية والفينيقية، وفي عيتا الشعب ومزارع شبعا ومارون الراس، مخزون تراثي وتاريخي كبير وعدد من المغاور الأثرية. ومن المسلّم به أنه ما من ضيعة في الجنوب إلا وفيها مغاور طبيعية قديمة محفورة بالصخر تعود لآلاف السنين إضافة الى مغاور أثرية حفرها الإنسان.
ويقول فضل الله: «ليس غريباً على العدو الإسرائيلي الاعتداء على الآثار في الجنوب. فالتراث اللبناني منذ الاجتياح الاسرائيلي في 1978 حتى 2006 يتعرّض للنهب والتدمير. وفي العام 1983 على سبيل المثال وفي قرية حنوية تمّت سرقة قبر حيرام وأجريت حفريات في محيطه وسُرقت منه كنوز. وفي 1984 سُرقت مدافن في مغاور تابعة لبلدة النبطية الفوقا، وفي العام 1985 جرت سرقة توابيت تعود الى العصر الروماني من منطقة راس العين في صور. وفي 2001 تم إخراج شاحنات محمّلة بالكنوز والآثار من مغاور في مزارع شبعا. وتَرافق كل ذلك مع تدمير لهذه المناطق الأثَرية لإخفاء ما تعرّضت له هذه البلدات من سرقات وجرائم بحق التراث اللبناني. والاعتداءات على التراث في القرى لاتزال مستمرّة اليوم وإن كان لا يُمكن إجراء مسح ميداني بعد في ظل الوضع الأمني والعسكري القائم. علماً أن مديرية الآثار كانت أجرت مسحاً سابقاً للآثار والمغاور وبقايا القلاع الموجودة في المناطق الحدودية».
ويضيف «ما يتداوله الإعلام من صور ويتناقله السكان من أخبار يُظْهِر بوضوح نية إسرائيل استهداف الأماكن التراثية في القرى الجنوبية لاسيما ساحات القرى».
ويشرح العالِم في الآثار «أن غالبية البلدات الحدودية المستهدَفة عمرها ما بين 200 و300 سنة أو أكثر، وساحاتها تضمّ بيوتات قديمة مبنية من الحجر المقسوم. ويتقصّد العدو الإسرائيلي تدميرَ الساحات في القرى لأنها تُشكّل الهوية التراثية للمجتمع وتختزن ذاكرة أهله».
ويتابع: «على سبيل المثال في 2006 جرى قصف بنت جبيل القديمة وبيوتاتها المبنية من الحجر القديم وهو أمر مقصود لتدمير ذاكرة الأجداد. واليوم ضُربت ساحات بنت جبيل وميس الجبل وعيتا الشعب والطيبة ويارون للسبب نفسه. فساحات القرى تجتمع فيها الدكاكين والمقاهي لتشكل ملتقى الضيعة وخزان ذاكرتها. ومع استهداف الساحات يتم تدمير البيوتات والمباني القديمة المحيطة بها حيث إن كل صاروخ يُرمى قادر على تدمير أكثر من 20 بيتاً كون هذه المنازل غير مدعَّمة بالحديد كما المباني الحديثة. ومن المعالم التراثية الموجودة في ساحات القرى الجنوبية البِرَك المائية التي تزيّن وسط الساحة ويمكن رؤيتها مثلاً في عيترون والطيبة وعيتا الشعب. وقد تَهَدَّمَ الكثير من هذه البرك التراثية مع استهداف الساحات التي تشكّل نواة القرية القديمة فيما الامتدادات نشأت لاحقاً مع اتساع العمران والتطور الحياتي».
التراث المعماري القديم
مشهد المنازل المدمّرة في الجنوب مؤلم وحزين، لكن ما يدمي القلب أكثر مشهد تلك البيوتات التراثية التي تهدّمت وسُوّيت حجارتها بالأرض. فهذه تجسّد التراث المعماري اللبناني القديم وأسلوب عيش اللبناني الجنوبي في القرون الماضية ولا يمكن إعادة الروح إليها متى تهدّمت حتى ولو تمّ ترميمها وتجديدها لأنها تفقد الإحساس القديم والفلسفة الروحية التي كان يضعها المعماريون في بنائها.
ويشرح فضل الله أن هذه البيوتات تَحمل طابعاً لبنانياً خاصاً يمكن إيجاده أيضاً في بيوتات قضاء الشوف الأعلى مثلاً، وهي تتميز بشبابيكها العالية وشرفاتها الصغيرة والعليات التي فيها مع الأدراج الحجرية الموصولة الى السطح والضفور التزيينية، وقد بنيت من الحجر الطبيعي وعلى شكل عقود دائرية أو نصف دائرية، وهي طريقة في البناء تتطلب معرفة وحرفية وثقافة معمارية لم تعد موجودة اليوم.
و«بنك أهداف» اسرائيل من قَصْف ساحات القرى يشتمل أيضاً على الجوامع التي يعود عمرها الى عمر الضيعة، وبعضها يتجاوز 300 عام. والجوامع كما الكنائس في الجنوب في غالبيتها تراثية وتُعتبر من أساس ثقافة المجتمع المتديّن والمُحافظ في المنطقة. وفي بلدتي ميس الجبل وعيترون تم استهداف مسجديهما الموجودين في وسط الساحة. وقد جرى إحصاء 82 مقاماً دينياً موزَّعة على القرى الجنوبية، كون الجنوب أرض الرسالات ولا شك في أن الدمار طال قسماً كبيراً منها في هذه الحرب، بعدما كانت تعرّضت لاستهدافات متتالية أثناء الاحتلال الإسرائيلي للجنوب. فدير مار ميما في بلدة دير ميماس على سبيل المثال الذي بُني في العام 1404 ورُمم مراراَ هدمته إسرائيل في العام 2006.
... البيوتات التراثية، المقامات الدينية وساحات القرى هي جزء من التراث اللبناني الذي تستهدفه إسرائيل عن قَصد، كما سرقت ودمرت في السابق كنوزاً أثرية تعود الى حقبات تاريخية قديمة ربما بحثاً عن أثر لوجودها في تلك الحقبات.
وها هي اليوم، كما يؤكد فضل لله، «تبحث عن تدمير الذاكرة الجنوبية المرتبطة بتعلق الناس بأرضهم وتاريخهم. وإضافة الى هذا التراث الإنساني ثمة تراث طبيعي في الجنوب يتلقّى حصته من التدمير الممنهج، إذ إلى جانب المَغاور التي تعرضت لقصف، فإن مجازر متسلسلة تُرتكب بحق الأشجار المعمّرة لاسيما الزيتون والسنديان والملول والتين. ويعود عمر بعض أشجار الزيتون الى الحقبة الرومانية أي الى أكثر من 2000 سنة وقد شهدت أكثر من 115 جيلاً متوالياً. والحديث عن الأشجار الضاربة في التاريخ ليس مجرد كلام، فقد أجريت أبحاث وتحاليل حول عمر بعض أشجار الزيتون في دير ميماس مثلاً وتبين أن عمرها يفوق 1500 عام».
... ستضع حرب المشاغلة الدائرة رحاها في الجنوب أوزارها يوماً لكن مَن سيُعيد إلى أهله تراثاً «تُطمر» معالمه ويُراد تحويله أنقاضاً وذكريات يتم محوها مع حجارة البيوتات والساحات القديمة؟