ثقافة الـ «فوم»

تصغير
تكبير
في تقرير جميل بثه تلفزيون الكويت عن احتفالات العيد الوطني قبل ثلاثين عاما رأينا «كويت» أخرى غير التي نعرفها اليوم. مواطنون ومقيمون في قمة الفرح والسعادة والمشاركة في النشاطات المختلفة على شارع الخليج وفي الساحات... إنما في غاية الرقي والتحضر والاحترام، فلا احد يتعدى حدوده ولا احد يقفل الطريق على آخرين، ولا احد يهاجم الاسر والاطفال الآمنة في سياراتهم برشاشات الرغوة والصابون (الفوم) ويتسبب في حوادث سير، أو مشادات جسدية، او تشويه للوجه أو إصابات في العيون كما حصل العام الماضي، حيث اجريت لبعض الاطفال عمليات جراحية جراء استخدام مواد «فومية» غير مرخصة و«مضروبة».

كانت كويت السبعينيات مختلفة و«غير»، ليس في التعبير عن الفرح والاحتفالات فحسب بل في كل الميادين المتعلقة بالفن والرياضة والثقافة والسياسة. السلوكيات غير والعادات غير والتقاليد غير والحياء غير والتوقير غير والاحترام غير. طبعا لسنا في وارد إلقاء محاضرة اخلاقية عن التربية لكننا نتساءل مع المتسائلين: ماذا حصل؟ ولماذا وصلنا الى ما وصلنا إليه في فترة قصيرة لا تتعدى العقود الثلاثة؟

أمور كثيرة في حياتنا صارت تشبه ثقافة الـ «فوم». في الرياضة صخب وضجيج ومحاولات اساءة الى البيت من ابناء البيت، وهناك قطاع طرق واعتداءات بمرشات التقارير المزيفة والمزورة، وهناك انجازات تشبه الفورة والصابون والرغوة... ثم انحسار على خسائر وخيبات.

في الفن كذلك، محاولات فردية تعتمد على البهرجة والفرقعة والموضوع النافر تصاحبها سجالات وانتقادات وضرب من تحت الحزام... ثم انحسار على فشل وتراجع.

في الثقافة، وما ادراك ما الثقافة، شعر جديد يزحف ونثر جديد يغزو وانماط لغوية جديدة تطير مثل الفقاقيع بعضها حديث وبعضها شعبي تصاحبها مسابقات وجوائز... ثم انحسار على نسيان وسخرية.

وفي السياسة، احتفالية دائمة قريبة جدا مما نشهده في الغزو الهمجي للطرقات. كل سائق سيارة يريد فرض اجندته الخاصة على السائرين قربه في الطريق فيتحول من اليمين الى اليسار وبالعكس من دون حتى ان يكلف نفسه عناء اعطاء اشارة، وكل سائق يريد السيطرة على مقاليد الطريق بسرعة الانطلاق وسرعة التوقف وسرعة الانحراف وما عليك سوى ان تغير الطريق او ان تبقى في البيت كي ترتاح من عناء المغامرة. وكل سيارة فيها ركاب يقررون هم مكان المعركة وزمانها، وما عليك اذا كنت سائرا في امان الله وانحجبت الرؤية امامك بفعل قذائف الـ«فوم» الا الدعاء للباري عز وجل بأن ينجي السيارة التي امامك من الاصطدام او ينجيك من اصطدام السيارة التي خلفك... هذا اذا لم تترجل قوات «الكومندوس» من سياراتها لفتح باب سيارتك ورش من فيها بالرغوات والصابون مع كل الخسائر المصاحبة.

وفي السياسة ايضا، طبول الحرب مثل فقاقيع الصابون، وخطط حكومية مثل مرشات الـ«فوم»... حماسة وانطلاق ومبررات وحوافز ثم تراجع وانكشاف على صفقات واتفاقات مع مصنع للمرشات ومواد الرغوة قبل المناسبات. ودائما دائما تضع الحكومة مسؤولية الفشل على السيارات في الشارع المقابل لان اصحابها لم يشاركوا في حفلة الصخب والهبل والفرح الوهمي.

وما ينطبق على الميادين التي ذكرناها ينطبق ايضا على الميادين الاخرى، فبين السبعينيات واليوم هوة كبيرة في السلوكيات لا تشهد مثلها عادة الدول والمجتمعات. هل هو الخلل في التركيبة السكانية بعد استخدام هذه التركيبة ايضا في الصراع السياسي؟ هل الخلل في سياسة استقدام العمالة بلا ضوابط اللهم إلاّ ارباح تجار الاقامات والبشر؟ هل الخلل في اسلوب تربيتنا ككويتيين ونحن الذين كنا مدرسة حقيقية في التضامن الاجتماعي والحرص على العادات والتقاليد وتوقير الكبير واحترام الصغير؟ هل الخلل في المناهج المدرسية وغياب التربية المدنية الصحيحة؟ هل الخلل في ثقافة الانغلاق التي ادت الى متنفس وحيد للجيل الجديد من خلال ثقافة الـ«فوم»؟ هل الخلل في ممارسة السلطة بطريقة المحاباة والتراخي والواسطة على مدى العقود الثلاثة الماضية حيث المخالف تمحى مخالفته بـ«واسطة» والمتجاوز تمحى تجاوزاته باتصال «مقايضة»؟ هل الخلل في سياسة معاقبة الموظف المدني او العسكري الذي يقوم بواجبه على اكمل وجه ومكافأة الموظف المدني والعسكري الذي يتغيب او يتجاوز؟

تعددت الاسباب وثقافة الـ«فوم» واحدة...

نقولها بكل صدق، ان طريقة الاحتفال بعيدي الوطني والتحرير تسيء الى المعاني العظيمة لهاتين المناسبتين ان لم نقل ان الكويتيين القادرين على السفر لا يفكرون مرتين قبل التوجه الى المطار في عطلة الاعياد ليس كرها بها وانما تلافٍ للغزو الذي تتعرض له الشوارع والطرقات... والعادات والتقاليد والقيم والأخلاق.



جاسم بودي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي