الرأي اليوم

... لفو

تصغير
تكبير

ما كان ينقص الكويت وهي في آخر الركب الخليجي إلا أن يُعيد البعض تكبيلها بسلاسل عُنصريّة وقبليّة وطائفيّة وكأنّنا نملك ترف الوقت لجدالات وسجالات لا علاقة لها بالمستقبل ولا حتى بتحريك قطارات التنمية الصدئة المنسية على أرصفة محطات خاوية.

هذا التكبيل يتمثّل في مِظلّة تتّسع، للأسف الشديد، ترفع بعض المُعالجات القانونية لأوضاع الجنسية الكويتية وغيرها إلى مصاف «المحرمات» في مقابل مِظلّة أخرى تحول أي إجراء قانوني إلى انتصار عنصري، ليتّضح لاحقاً أن المِظلّتين تتشاركان في الأهداف والمصالح وتُوسّعان قواعدهما على حساب المفاهيم الوطنية، ويتّضح أكثر أنّ السياسات الرسمية المُتخبّطة منذ عقود تُغذّي هاتين المِظلتين ظنّاً منها أن التناقضات يُمكن أن تخدم السلطة.

نعيش تصنيفات غريبة عجيبة، ولا نُنْكر أن هذه التصنيفات تجد هوى عند البعض، آخرها تكرار استخدام مُصطلح «لفو» للقول إن فلان أصيل وفلان وَفد لاحقاً إلى هذه الأرض. ولا نعلم حقيقة بوجود دولة واحدة في الدنيا لم تتكوّن من مجاميع وفدت من أماكن مُختلفة وانصهرت في بوتقة اجتماعية ضمن عقود مُختلفة لأنظمة عيش مُشترك أنتجت لاحقاً كيانات سياسية.

في اللغة، «لفو» مصدرها لفى أي وفد واستظل، ويذهب آخرون إلى القول إنه وفد و«ألف» المكان أي تعوّده واستأنس به، ويقال «إيلاَفُ الْمَكَانِ»... تعَوُّدُهُ حتى صار المكان مألوفاً.

في اللغة، لا توجد إساءة نهائياً في هذه الكلمة، وفي التجربة - من أستراليا إلى الولايات المتحدة - لا توجد مُشكلة في الحديث عنها وتقييمها باستمرار. الفارق أن الدول المتقدمة تزامن فيها تقدّم الوعي المُجتمعي مع التشريعات القانونية ما أنتج ثقافة أخرى تماماً وجّهت الطاقة السجالية إلى مسارات التنمية والقضايا المعيشية، أي أن الأميركي الأبيض والأسود ومن أصول مكسيكية وإيرلندية وكوبية وعربية يشتركون في النضال لتعديل النظام الصحي وضمان الشيخوخة وتحسين القطاع التربوي وتسهيل إجراءات الاستفادة من التكنولوجيا وتسريع وتعميم المدن الإسكانية وغيرها.

سيطرح البعض سُؤالاً عن وجود ظواهر عنصرية هنا وهناك في هذا العالم المترامي الأطراف، والجواب بالتأكيد: نعم هناك ظواهر تقلّ وتكثر وستبقى موجودة، وهناك جدران عزل بُنيت لدوافع سياسية وشعبوية، لكنها لا تُؤثّر على مشاريع التنمية، كما أن التطلّع إلى المستقبل عبر الوعي المجتمعي يحدّ منها كثيراً ويجعلها هامشية وإن كانت موجودة... ولذلك هناك دول تصبح الاضطرابات العنصرية فيها مصدر استفادة تاريخية وهناك دول تتجدّد وتقوى فيها الاضطرابات العنصرية وتتحوّل أحياناً إلى مذابح نتيجة لضعف الوعي المجتمعي وغياب التنمية والتشريعات القانونية و«ارتفاع صوت الجماعات المُتعدّدة على صوت الدولة.».. والجملة الأخيرة بيت القصيد.

نعود إلى الكويت، «لفى» كثيرون من الشمال والجنوب والشرق قبل مئات السنين، سعياً إلى الأمن والرزق. بعضُهم اندمج في المنظومة الاجتماعية الاقتصادية وتَشارك مع الموجودين في تكوين مصالح مُشتركة، وبعضُهم عاد وغادر بحثاً عن مكان يعتبره أفضل للعيش.

لم يظهر في نفور هذه الصورة التاريخية سوى سلوك أقلّيتين: واحدة اعتبرت لاحقاً ضرورة التمييز بين من «كان» ومن «انضم» رغم مرور عشرات السنين على الاندماج، وثانية اعتبرت أنها انضمت لكنها مُصرّة على فرض عاداتها وتقاليدها في مُجتمع معروفة عاداته وتقاليده.

الأصل هي الكويت، والأصيل هو الكويتي بغض النظر عن تاريخ وجوده في الديرة واندماجه الاجتماعي سواء كان قبل 350 عاماً أو 100 عام، والاندماج هنا يعني التاريخ والعمل والعطاء ومواكبة المراحل الانتقالية جيلاً بعد جيل وحماية الأرض والعرض. تجاور الجميع في المناطق والفرجان ولم تكن هناك جدران عازلة، ويروي التاريخ أن التباينات كانت على مواضيع معيشيّة واقتصاديّة وتُجاريّة داخل كل مُكوّن اجتماعي وليس على مواضيع سياسية أو عنصرية بين هذه المُكوّنات.

وإلى التاريخ الحديث والدولة والدستور، كانت السجالات تدور بين قامات سياسيّة ليس في قاموسها كلمة «لفو» ولا تتعامل في تحرّكاتها من خلال التقسيم القبلي أو الطائفي. هناك من اهتم بالانخراط في أفكار قومية، وهناك من اعتبر أن الأولوية هي لحماية الدول الوطنية، وهناك من رأى أن الحياد عن الأقطاب العالميين والإقليميّين فيه مآثر السلامة للكويت، وهناك من انخرط في تكوين نقابات واتحادات طلابية ونوادٍ اجتماعيّة – سياسيّة مدخلاً لتثبيت مشاركة شعبية أكبر في الحياة السياسية... وصولاً إلى الدستور والبرلمان.

تخيّلوا لو كان الخطاب العنصري الطائفي القبلي السائد حالياً موجوداً في تلك الحقبة، هل كانت ركائز الدولة لتترسّخ أم تتفسّخ؟ هل كُنّا سنعبر إلى المشاركة الأوسع – رغم كلّ ما أحاط بها- في إدارة مؤسسات السلطة أم كنّا سنقف على أطلال مرحلة مُستعيدين الآية الكريمة «ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم»؟.

الحل؟

إعادة تكريس مفهوم «الكويت أولاً» ولا صوت يعلو على صوتها. لا صوت القبيلة ولا صوت الطائفة ولا صوت فئة ولا صوت منطقة.

لا يوجد سوى دماء حمراء في شرايين الكويتيّين، ولا همّ للجيل الجديد الذي يُقحمونه في أتون التخلّف الحالي سوى النظر إلى المستقبل وكيف يُؤمّن مقعداً في عالم التنمية والحداثة والتطوّر.

لا قوّة للجماعات الأهلية مهما اشتدّ عودها فوق قُوّة الدولة، ولا قُوّة للدولة إن استمرت الصفقات والتسويات وسياسة «فرّق تسُد».

المُشكلة صارت مُركّبة بين حكومات أخرجت المارد من القُمْقُم ولم تعرف كيف تعيده وبين مظلتي التعصّب والعنصرية التي خدمت أصحابها مرحلياً على حساب البلد ومستقبله... ولا بد للجميع من «اللفو» إلى صفحات التاريخ، وإلى الدولة الجامعة الحديثة العادلة ومُؤسّساتها وقوانينها.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي