الرأي اليوم
سامحوني... هؤلاء لم يهبطوا من السماء
المساحة هنا دائماً لإشراك أهلنا في الكويت بعض الأفكار وتشخيص العِلل والسلبيات. فالجميع معنيون بما حصل ويحصل، والجميع مدعوّون للوقوف أمام مرآة الحقيقة.
نحن اليوم في أجواء انتخابات نيابية نتمنّى أن تُفرز مجلساً يُكمل مدته لأربع سنوات، إذ إن آخر مجلس أكمل هذه المدة كان 2016 وبعدها تعرّض للحلّ والإبطال أربع مرات.
في ظل الحقبة اللا مُستقرّة على صعيد السلطتين التشريعية والتنفيذية وعلى مدى السنوات السابقة سمعنا مليون تفسير وانتقاد و«تحلطم» وشكوى وتنظير وتحليل وتحذير. وصار لدينا أيضاً مليون خبير دستوري يُفتي بالصحّ والغلط حتى ضاعت أصوات الخبراء الدستوريين الذين نُجلّهم ونحترمهم وسط غابة الفتاوى هذه... ولكن أحداً من هؤلاء «المتحلطمين» لم يسأل نفسه عن المسؤولية الفردية والمجتمعية في وصول الوضع إلى ما هو عليه، ولم يبذل جهداً بسيطاً لتفسير «كما تكونون يولّى عليكم» تحديداً في الشأنين البرلماني والحكومي.
أهلنا في الكويت، هؤلاء لم يهبطوا من السماء بل كانوا ثمرة خياركم أنتم. لم تفرضهم علينا دولة أخرى بل أصواتكم في الصناديق. الشعب يختار مجلس الأمة، ورئيس الوزراء يختار وزراءه وهو مواطن كويتي ومن الشعب وكذلك أعضاء الحكومة.
تنتخبون مجموعة أشخاص وتُهلّلون لهم وتملأون الفضاء الإعلامي مديحاً وتبجيلاً، وبعد مسار زمني تبدأ لحظة التراجع، ثم تسكن الهواجس الذين هتفوا وحملوا المرشحين على أكتافهم، ثم تتحوّل الهواجس إلى قناعات بأن الخيار كان خطأ فيبدأ التعبير عن سوء الأداء ويصبح حلّ البرلمان مصدر فرح لأن استمرار الأمور على ما هي عليه يُعطّل التطور والتنمية سواء اختلفت السلطتان أو اتفقتا بصفقة تُعلي الاعتبار للمصالح على حساب الشأن العام.
هل يمكن أن نتحمّل بعضنا في كلام هادئ للنقاش لا للطعن ولا للتجريح؟ أفيدونا إن كنا مُخطئين. بعضنا ينتخب لأن القبيلة رشحت له شخصاً. وبعضنا ينتخب انحيازاً لخلاف داخل القبيلة نفسها أو بين قبيلتين فيختار مُنافساً لمن لا يودّه. وبعضنا ينتخب للطائفة والمذهب بعدما يتم تهيئة الأرضية لذلك عبر تصريحات نارية من هنا وهناك فينغسل الدماغ ويضعون الناخب في صورة أن صوته جزء من الدفاع عن العقيدة تجاه مهاجميها. بعضُنا ينتخب عن عنصرية ويعتبر أن دماءه زرقاء. وبعضُنا ينتخب عن عصبية ويعتبر نفسه الغيور على مصلحة الأمة. وبعضُنا ينتخب عن مناطقية وكأنه حامي حمى المنطقة من «غزوة» خارجية. وبعضُنا ينتخب عن مصلحة مُستفيداً من الموسم الانتخابي ويأساً من إصلاح مُقبل... وطبعاً هناك من ينتخب قامات وطنية جيدة برؤية عصرية وقدرة تشريعية ورقابية.
مرة أخرى، أهلنا في الكويت... هؤلاء لم يهبطوا من السماء.
أيها الناخب، إلى جانب خيارك، تكرّست مفاهيم سلبية في الشأن البرلماني. صار أي نائب يوالي الحكومة سُبّة، وبعد فترة صار أي نائب معارض يُعطّل الجلسات ويرفع الصوت بمناسبة ومن دونها سُبّة. ثم دخلت أدبيات جديدة على مجلس الأمة أهمها أن النائب يهاجم «التاجر» ويوهم الناخبين أن هجومه على التجار انتصار لهم. كلمة «تاجر» في الكويت كانت مُرادفة لقيم مثل الكرم والأخلاق والبناء والتطوّر والسمعة الحسنة ومساعدة المحتاج من أبسط إنسان إلى صندوق الدولة... اليوم أحفاد هؤلاء أصبح كل واحد منهم «حرامي» حتى يثبت العكس بدل أن يكون بريئاً حتى يثبت العكس. مع العلم أن العيوب موجودة في كل الطبقات بما فيها طبقة التجار لكن توظيف الكلمة في إيهام الناخبين بأن ضرب أي تاجر يُحقّق مكاسب لهم هو الفرية بعينها من دون أن ندخل في قصة لمصلحة أيّ تاجر يضرب نائب ما «تاجراً» آخر.
أخي الناخب... انكسار التوازن بين المتطلبات التشريعية والرقابية المطلوبة لمصلحة الشعارات السلبية يضرب الاستقرار. هناك ابن قبيلة جيد وآخر سيئ، اختر الجيد. هناك تاجر محترم وآخر غير محترم، اختر المحترم. هناك ابن مذهب ما مميز وآخر تحت الوسط، اختر المميز. هناك حضري مُتألّق في مسيرته وعلمه وآخر غير متعلم لا همّ له سوى اللعب على وتر العنصرية، اختر المتألق. هناك مُتعلّم فاهم وهناك «مدعي علم»، اختر الفاهم... أما «معاهم معاهم عليهم عليهم» فسامحني إن قلت إنها مقولة تسيء إلى عقلك أولاً وتنتقص من إدراكك وعلمك وقدرتك على التمييز فالاختيار.
اعلم أخي الناخب أنك أنت من يفترض أن يُحدّد مواصفات المرشح الكفء لا أن تقبل أن يفرض عليك أي مرشح مواصفاته هو. فالمرشح الذي يملك برنامجاً وطنياً علمياً تحديثياً تطويرياً واقعياً هو الأفضل لا المرشح الذي يجاهر حتى قبل انعقاد المجلس بأنه سيستجوب رئيس الوزراء أو أي وزير من أول يوم. أنت أخي الناخب من يُحدّد المرشح الجيد الذي يتعهد بمراقبة الحكومة ومتابعة عملها وأداء وزرائها فإن أصابت وفّر لها الدعم وإن أخطأت تدرّج في وسائل المحاسبة.
أهلنا في الكويت، أنتم الأصل والأساس، هذه الاستحقاقات مصيريّة والتغيير يبدأ بكم أنتم وبالورقة التي تضعونها في الصندوق. هذه الكويت، دار أمن وأمان ووفرة مالية، لكن استمرار الاختيارات بالقواعد المعتادة سيقودنا إلى تفاقم الخلل وربما إلى حفر عميقة وهاوية طويلة... الزمن لا يرحم.