مرافعات محكمة العدل الدولية بشأن فلسطين «تكشف» إسرائيل... وتؤكد عجْز القانون أمامها
منذ بضعة أيام تتوالى مرافعاتُ الدول أمام 15 قاضياً يمثلون أعلى سلطة قضائية دولية ويترأسون محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة لتقديم الاستشارات القانونية بشأن الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي.
وجلّ ما تقدّمه غالبية الدول هو إظهار القرارات الدولية السابقة، دون حاجة لتفسيرها، والتي تدين إسرائيل منذ ان احتلت فلسطين وكذلك أراضي عربية أخرى والتي عجزت الأمم المتحدة عن تطبيقها ورفضت إسرائيل الالتزام بها.
وهذا يؤكد عجز وعدم كفاءة الأمم المتحدة في تنفيذ قراراتها إلا عندما ترغب بذلك الدول الأعضاء، على رأسهم الدول العظمى واخواتها. وتالياً فإن حرب غزة كشفت مدى حاجة العالم لنظام عالمي جديد تُحترم فيه القوانين الدولية قبل فوات الأوان.
من الضروري ألّا ينتظر العالم أن تقدّم محكمة العدل الدولية شيئاً جديداً يدين إسرائيل على جرائمها ضدّ الإنسانية وجرائم الحرب، قبل ان تنظر بأمر ارتكابها إبادة جماعية.
فالمرافعات التي بدأت مطلع الأسبوع الجاري تهدف لتقديم وتذكير القضاة بقراراتٍ سابقة أصدرتْها الأمم المتحدة أو بتصريحاتٍ تُنسب إلى مساعدي الأمين العام أنطونيو غوتيريش - أو حتى له شخصياً - حول ارتكابات إسرائيل في الأعوام الماضية وآخرها حرب غزة.
وهذه القرارات تبدأ بحق العودة وضرورة إزالة المستوطنات غير الشرعية ووقف قضْم الأراضي المحتلة والتمييز العنصري. وجميع هذه القرارات مازالت إسرائيل تمعن في انتهاكها من خلال أفعالها.
فقد احتلت إسرائيل عام 1967 أراضي في دولٍ مجاورة بعد حربٍ استباقية، وهي عبارة تستخدمها الولايات المتحدة في ضربات عسكرية غير شرعية بالنسبة للقانون الدولي. فلا يوجد في القانون ما يسمح بـ «ضربات استباقية» لأن الجرم أو العمل الحربي يدان أو يُحاكم بعد الشروع فيه، وليس يحسب رغبة المُهاجِم وتَصوُّره الشخصي أو استناداً لمعلومات استخباراتية لا يمكن تأكيدها.
إذ إن الذنب يقع بعد التنفيذ وليس بمجرد تصوّر طرف ما أن الطرف الآخَر يمكن أن ينفذه مستقبلاً.
وتالياً، فإن احتلال إسرائيل لأراضٍ فلسطينية وأخرى عربية يشكل انتهاكاً للقانون الدولي الذي يفرض على إسرائيل إعادتها لأصحابها.
إضافة إلى ذلك، فإن الفارق شاسع بين الاحتلال وقضم الأراضي الذي يخرق القانون الدولي. فاحتلال الدول أو أراض في دول أخرى أو أراض في الدولة نفسها تنتمي لشعب آخَر أو لأفراد لا يلغي ملكية أهل الأرض وأصحابها. بينما يُعتبر قضْم الأراضي بمثابة استيلاء عليها وإيجاد واقع ديموغرافي جديد وسلخ المالك الأصلي عن ملكيته. وهذا ما دأبت إسرائيل على ارتكابه منذ عشرات السنين.
وهذا ما يأخذنا للنقطة الثانية المهمة والتي أثارتْها أكثر من دولة في مرافعتها، وهي توسيع وبناء المستوطنات غير الشرعية، إذ إن إسرائيل وسّعت مستوطناتها من 127.000 في عام 1993 إلى 750.000 في الضفة الغربية، ومن 20.000 إلى 250.000 في شرق القدس وتحديداً في المناطق التي حددها اتفاق أوسلو كمنطقة تجمع بين قطاع غزة والضفة والتي اعتبرها تابعة لدولة فلسطين.
لكن إسرائيل لا تأبه بالنداءات الدولية التي تطلب منها إزالة المستوطنات، بل هي تستمر بعمليات البناء وترفض الامتثال للقوانين الدولية.
ففي عام 2014، أقرّت الكنيست الإسرائيلية قانوناً يرفض التوقف عن بناء المستوطنات. وهذا يدلّ على تصميم إسرائيل على المضي بمخططها لدفع الفلسطينيين نحو الاستسلام للأمر الواقع أو المغادرة نحو دول أخرى لأن حكومة إسرائيل لا تنوي وقف بناء المستوطنات ولا إعادة الأراضي ولا إقامة دولة.
فـ «دولة إسرائيل» المبنية على أراضٍ مغتصَبة، لن تقبل بوجود أي شخص غير يهودي في فلسطين يذكّرها باحتلالها وعدم شرعيتها. ففي عام 2011، قدّم أحد أعضاء الكنيست البارزين آفي ديختر مشروعاً يؤكد فيه على طلبه باعتبار حق العيش في هذه «الدولة» لمَن يعتنق الدين اليهودي فقط.
وقد عارضه أعضاء كثر لأن ذلك من شأنه منع ممارسة الشعائر الدينية الأخرى، ما يطعن بادعاء ديموقراطية إسرائيل. فخرجت المحكمة العليا لتؤكد صوابية قرار الكنيست. وهذا يُعد خطوة إلى الأمام لمنْع وجود أي شخص غير يهودي ويؤكد على عنصرية إسرئيل.
وبدأت حملة التضييق والتجويع والتنكيل بسكان الضفة الغربية: فقد أقرت الحكومة التضييق على المصلّين المسلمين والمسيحيين بالدخول إلى القدس والمسجد الأقصى أيام شهر رمضان وحتى للذين يحملون الجنسية الإسرائيلية إذا لم تتجاوز أعمارهم حداً يراوح بين 40 إلى 70 سنة، وهذا يؤكد تطرف التوجه الإسرائيلي الذي بات يجاهر بخرقه للقرارات والقوانين الدولية، غير مبالٍ بما تُتهم به تل أبيب من ممارسات متطرفة.
إضافة إلى ذلك، فقد أقرت الكنيست عدم جواز أي طرف في الدولة والحكومة وتحت أي ظرف الاعتراف الأحادي بدولة فلسطينية. وهذا يضع مسامير دائمة في نعش الوساطة الغربية التي تنادي بحل الدولتين.
مهما فعلت الدول الغربية لحرف النظر عما ترتكبه إسرائيل من جرائم، فهي لا تعير أي اهتمام للإستراتيجية الغربية التي تحاول الحفاظ على ماء وجهها حتى ولو دعمت إسرائيل من دون هوادة.
فالمناداة الغربية بالسماح بتدفق المساعدات الإنسانية يقابلها تشدُّد ومنع واضح إسرائيلي، وذلك بهدف تجويع سكان القطاع. والطلب الأممي بفتْح المياه العذبة في اتجاه غزة لم يُثْنِ إسرائيل فبقيت على موقفها المتصلب على الرغم من انتشار الأمراض والأوبئة في شكل كبير في القطاع.
حتى أن إسرائيل دفعتْ دولاً عدة لمنع وكالة «الأونروا» عن العمل بعد ادعاءٍ – من دون دليل – بتضامن الأمم المتحدة مع «حماس». وها هي تمنع عشرات الآلاف من الفلسطينيين في الضفة الغربية من العمل في مناطق أخرى لضرب الاقتصاد برمّته وتجويع الفلسطينيين حيثما وُجدوا.
لا تَعتبر إسرائيل نفسها فوق القانون، بل هي لا تأبه به وتتحدى العالم بخرقها للقوانين الدولية فقط لأن الدول لا تستطيع معاقبتها ولا تأديبها. وهذا ما يسمح لنتنياهو بالتباهي بوقوفه في وجه التمنيات الأميركية لعلمه أن واشنطن لن تعاقبه مهما فعل، لأن إسرائيل هي الولد المدلل وحاملة الطائرات الأميركية الثابتة في الشرق الأوسط.
وتالياً فإن المحكمة الدولية تذكّر العالم بأفعال إسرائيل التي أصبحت مكشوفة لعدد أكبر من سكان العالم من دون أن يكون لذلك تأثير قانوني، بل معنوي. وهذا يُعتبر انكساراً لإسرائيل التي يشار إليها وإلى حليفتها أميركا بأنهما المسؤولتان المباشرتان عن قتل الأطفال والنساء وتجويع الملايين في فلسطين.
من هنا، فإن النظام الدولي الحالي أصبح مهترئاً ولم يعد يصلح لتنظيم القانون وفرْض احترامه والالتزام به. وهذا يتطلّب عملاً دولياً جدياً لإعادة صوغ الأمم المتحدة من جديد قبل أن يسود «قانون الغاب» على الجميع.