لماذا السلام الإسرائيلي - الفلسطيني «غير ممكن» تحقيقه؟
لا توجد في تاريخ الإنسانية حرب إلّا وانتهتْ حول طاولة المفاوضات مهما طال وقتها، لأشهر أو لسنوات، وأُزيلت أسبابها من خلال تفاهمات معينة ترضي الطرفين، أو بغالب ومغلوب، أو بعدم تحقيق أي من الأطراف انتصار على الآخر.
إلا أن الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي تَجاوَزَ عمرُه 75 عاماً من احتلال إسرائيل لفلسطين وانتظامها على القتل والتنكيل والتهجير وإهانة الفلسطينيين، وعدم التزامها بأي اتفاق دولي، وآخَرها اتفاق أوسلو في عامي 1993 - 1995. فلماذا اعتبرت إسرائيل والفصائل الفلسطينية أن السلام بين الشعبين غير ممكن؟
قبل السابع من أكتوبر 2023، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ان «اتفاق أوسلو مات». فردّت عليه حركتا «حماس» و«الجهاد الإسلامي» بالدعوة إلى «إسقاط اتفاق أوسلو المرحلي بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل» بعد مرور 30 عاماً على توقيعه، وطلبت «حماس» من منظمة التحرير إعلان «فشل أوسلو وسحْب اعترافها بالكيان الصهيوني المحتل»، لأن الشعب الفلسطيني لم يَجْنِ منه سوى «الآلام والمعاناة والمآسي ليصبح كارثياً»، مؤكدة «أن خيار المقاومة الشاملة والوحدة الوطنية هو السبيل لانتزاع الحقوق كاملة وغير منقوصة».
لم يتقبّل القادة الإسرائيليون أبداً إنشاءَ دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب دولة لإسرائيل بحلول عام 1999 - كما نص عليه اتفاق أوسلو - مع المساواة لكلا الشعبين.
فقد استغلت تل ابيب مفاوضات أوسلو لتعزيز سلطتها وسيطرتها على الأراضي المحتلة، واحتفظتْ بالسيطرة المباشرة على غالبية الأراضي ولم تقدّم الخدمات المتوجبة من قوة الاحتلال للسكان الخاضعين لها.
بل وسّعت المستوطنات غير القانونية على كامل الأراضي الفلسطينية إلى مستوى غير مسبوق خصوصاً في الأراضي التي كان من المفترض ان تشكل قلب الدولة الفلسطينية.
وفرضتْ إسرائيل قيوداً صارمةً في شكل تصاعدي على حركة الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة ونحو العالم الخارجي، وسرّعت من وتيرة تدميرها للمنازل والمجتمعات الفلسطينية، بحجة أنها بُنيت من دون موافقة السلطات الإسرائيلية، وتالياً من المستحيل للفلسطيني الحصول عليها.
وفشلت أميركا في العمل كوسيط عادل، بل تغاضتْ عن اتخاذ أي تدبير لمنع الخروق الإسرائيلية التي لا تُعدّ ولا تُحصى لاتفاق أوسلو، بل ذهب مستشار الأمن القومي جيك سوليفان ليعلن قبل السابع من أكتوبر، ان هذه الإدارة هي الوحيدة التي لم تشهد اضطرابات في الشرق الأوسط، وهو تصريح اعتبر بمثابة نعي للدولة الفلسطينية ودعم لتصريحات نتنياهو بـ«وفاة اتفاق أوسلو».
واستخدمت تل ابيب الغطاء الأميركي والعجز الأوروبي وشلل قدرات الأمم المتحدة لتوسيع المستوطنات وإيجاد «حقائق على الأرض» لم توجد عام 1995.
وقام المستوطنون في 1994 بمذبحة راح ضحيتها 29 فلسطينياً أثناء صلاتهم في الخليل على يد مستوطن أميركي الأصل لتصل الأمور بوزير الأمن القومي الحالي إيتمار بن غفير، وبغطاء وموافقة رئيس وزرائه نتنياهو، إلى تسليح المستوطنين وإعطاء «الغطاء والحماية القانونية لهم إذا قتلوا أي فلسطيني».
وبحسب اتفاق أوسلو، قُسمت الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق: المنطقة (1) التي تضم 17 في المئة من الأراضي، حيث اقطن غالبية الفلسطينيين، ومن المفترض ان تكون تحت السيطرة المدنية والأمنية الفلسطينية من دون منازع.
وتخضع المنطقة (ب) التي تشكل 23 في المئة من مساحة الضفة لسيطرة مدنية فلسطينية وعسكرية إسرائيلية.
أما المنطقة (ج) التي تضم 60 في المئة، فتقع تحت السيطرة العسكرية والمدنية الإسرائيلية وتضمّ المستوطنات اليهودية.
في 1992 بلغ عدد المستوطنين 100.000 ليصبح العام الماضي، 750 ألفاً في الضفة. وارتفع العدد في القدس الشرقية المحتلة من 141.000 إلى 267.000.
وفرضتْ إسرائيل نظام تصاريح لتحدّ من تحرّك الفلسطينيين، ووضعتْ أكثر من 500 حاجز أمام تحركاتهم في الضفة والقدس الشرقية، وكذلك أوجدت حواجز متنقلة للشرطة العسكرية، و«زيارات قسرية» للجيش الإسرائيلي ليلاً للمنازل الآمنة لإهانة ومضايقة وترهيب الفلسطينيين ولوضع عوائق أمام ذهاب أبنائهم إلى المنزل أو المدارس أو لطلب الرعاية الصحية.
كذلك عرقلت وصول المزارعين إلى حقولهم، وأيضاً التجارة والأعمال، والخروج إلى دور العبادة وزيارة أفراد العائلة والأصدقاء.
وكانت القدس مركزاً للحياة الدينية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية للمسلمين والمسيحيين، فأصبحت غالبية السكان في حال حصار دائم، ولا يُسمح إلا لعدد قليل بدخولها.
وفصلت إسرائيل، القدس والضفة عن قطاع غزة، رغم أن الاتفاقية أوسلو نصّتْ على الربط بينهما، من خلال بناء مستوطنات جديدة حتى أثناء حرب أكتوبر 2023.
كما فرضت حصاراً خانقاً برياً وبحرياً على غزة وحتى على الصيادين رغم إدانة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي اللذين يعتبران إجراءات إسرائيل عنصرية وغير قانونية، ولكن من دون اتخاذ أي إجراء أو عقوبات جماعية ضدها، ما زاد في غيِّها وتحدّيها للقوانين الدولية.
لقد تفاخر نتنياهو بأنه عمل لـ 30 عاماً ضد قيام الدولة الفلسطينية وبانه دَعَمَ «حماس» ليزيد الفرقة بين الفلسطينيين بخطواتٍ معلَنة لم يتردد فيها بكشف خططه، وتالياً فإن أي كلام إسرائيلي عن احتمال قيام «دولة فلسطينية» لا يمت للحقيقة.
وليس عجباً أن تختار المقاومة الفلسطينية تاريخ السابع من أكتوبر للهجوم على مستوطنات غلاف غزة ولإعلان غضب الشعب الفلسطيني وتصميمه على استعادة الأرض من الإسرائيليين الذين أتوا من بولندا وصربيا وروسيا والمغرب وتونس والعراق وإثيوبيا وليتوانيا وأميركا وكندا وأوروبا الغربية وجنوب أفريقيا وجميع أنحاء العالم، لسرقة الأرض وطرد جميع السكان الأصليين، كما حصل في أميركا وكندا ونيوزيلندا واستراليا.
واعتقدت إسرائيل أنها تستطيع السير على خطى الدول العظمى الغنية بقتْل الفلسطينيين من دون أن يتحرك العالم الخارجي. وهذا ما حصل فعلاً ولكن الشعب الأصلي صاحب الأرض أبى الاستسلام، وأحيا القضية من جديد وفضّل الموت ليعيش أطفاله يوماً في أرضهم من جديد مهما عظمتْ قوة المحتلّ، وبقوة السلاح وليس بالمفاوضات الكاذبة.