جودة الحياة

فن المسافات... أداة للحفاظ على الصحة النفسية

تصغير
تكبير

همستُ لصديقتي وأنا أغادر مكتبها الأنيق إن أرادت أن تعيش بسلام عليها أن تعترف أن ما حدث كان يمكن تجنبه لو أنها تركت مسافة الأمان والخصوصية بينها وبين وما أسمتها «صديقتها» التي تسللت من باب الصداقة والثقة المتينة، فتمكنت من زعزعة استقرار حياتها المهنية بوشاية رخيصة، لم أجد ما أواسيها به سوى الصبر على المصائب لتجاوز وأخذ العِظة والعِبرة من الدرس الأليم، وبدا لي وقتها أن إعطاء النصائح وتقليب المواجع والمواقف والذكريات، لا يُعيد عقارب الساعة للوراء فضلاً عن أنه ليس من الحصافة والحكمة في شيء.
فالعلاقات الاجتماعية هي جزء أساسي من حياتنا ولكن يمكن أن تكون مصدراً للضغط والتوتر، وهنا يأتي دور فن المسافات كأداة مهمة للحفاظ على الصحة النفسية ونجاح العلاقات.

يقيني ليست ثمة علاقة يُراد لها الاستقرار والازدهار دون حدود ومسافات آمنة، ولا يعني القرب قوة العلاقة ولا استمرارها، بل ربما كانت أكثر عُرضة للانهيار والفشل في أي وقت لأن إلغاء الحدود وغياب الخصوصية يجعلانها عُرضة للاختراق والعبث بخصوصيتها، وضع الحدود والمسافات ليس بغضاً وترفعاً أو تكبراً، وإنما هي مسافة أمان جديرة بأن تُعيد للروح توازنها وللقلب حصانته من أي مُتطفل ومُتربص يفتقر للأخلاق والنزاهة.
مسافة الأمان لا تعني بالطبع رسم خطوط حمراء أو صفراء، بل تعني ببساطة أن تكون تلك المسافة واضحة وصريحة في التعبير عن معنى الحدود ومقدار الثقة والقرب في العلاقات الإنسانية كالصداقة أو زمالة العمل، وكل علاقة ذات قيمة ومعنى في سُلم العلاقات الإنسانية، فلماذا علينا أن نستنزف مشاعرنا ونحرق أعصابنا بأفعال من صُنعنا.
إن المسافات الآمنة تبقى أكثر عقلانية وحكمة، فلا تقترب حد الاحتراق ولا تبتعد حد الافتراق، وفي عالم يتسم بالتعقيد وتشابك العلاقات وتضارب المصالح، ينبغي لكل ذي بصيرة تحديد المسافات ورسم خطوط تشعرنا بالراحة والأمان وتُمكنا من التحكم في تفاعلاتنا الاجتماعية والاحتفاظ في الوقت ذاته بعلاقات صحية ومستدامة، وفن المسافة والقرب والتباعد في الوقت المناسب إحدى المهارات التي يتعين علينا تطويرها، فالحضور في الوقت المناسب والغياب بالقدر الكافي فلا نكون متاحين في أي وقت ولا منغلقين حتى نفقد التواصل الإنساني الفعال ولا منفتحين فنتعرّض للإيذاء العاطفي.
فن المسافة يتجلى بباسطة في فهمك احتياجات الآخرين والتواصل باحترام.
إن ادراك فن المسافة ووضع حدود للعلاقات مع الآخرين لا يعني انعزالاً في العلاقات ولا إضعاف للتواصل الخلاق والعلاقات المُنتجة والصحية بالمجتمع، بل هو تحقيق للتوازن بين الاقتراب والابتعاد بما يُعزّز الصحة النفسية ويحفظ العلاقات الإنسانية من التدهور والانهيار، فلا تكشف أوراقك وتجعل حياتك متاحة لكل من هب ودب، فما جدوى أن أخسر نفسي وأكسب الآخرين.
لا تميل كل الميل وتلغي المسافات باسم الحب أو الصداقة فتكشف نقاط الضعف والهشاشة في نفسك، وتُصبح عرضة للإيذاء فلربما انتهت العلاقة وتلاشى الود، حينها لا يمكن توقع أن تسير الأمور بخير أبداً إلا من باب حسن الظن، إذاً، ليس من الحكمة كشف الستار عن خصوصياتنا، بل ينبغي تحصين مسافة الأمان لعلاقات الحب، الصداقة، والقرابة.
وفي النهاية فن المسافات هو أداة ذكية عندما يتم استخدامها بناء على الحاجة والتوازن، ويمكن أن تختلف ممارستها من شخص لآخر ومن علاقة إلى أخرى والهدف في نهاية المطاف تحسين الصحة النفسية وجودة الحياة الاجتماعية لك وللآخرين.
X: t_almutairi
Instagram: t_almutairii
Email: talmutairi@hotmail.com
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي