ما أصعبَ أن يقدر الإنسان على كبح جماح مشاعره في هذه الأيام! أمّا مَن يقابل ما يحدث في غزة بقلب بارد أو فم صامت، فعليه أن يعيد النظر في انتمائه للجنس البشري ما دامت الصورة الكاملة قد وصلت إليه. وهذا أمر لا يتحقق دائماً، فثمة فجوة بين الشارع العربي والإسلامي الذي يعرف القصة كاملة، و«الشارع الآخر» إذا جاز التعبير. وأزعم أن وصول الصورة الكاملة إلى «الشارع الآخر» سيُحدث انعطافة فارقة. والسؤال، كيف نُحدث هذه الانعطافة؟
منذ بداية عملية طوفان الأقصى، تتخذ الكويت دوراً قيادياً واضحاً وجَسوراً على المستويين الحكومي والشعبي، دوراً تثبت فيه الكويت أنها -على مر العقود- داعم أصيل للحق الفلسطيني.
لكن، من الواضح أن سقف جموح الشارع أعلى من خطط الحكومة.
فقد سمعنا في الأيام الفائتة في ساحة الإرادة في الكويت هتافات تطالب بفتح الحدود، وأخرى تنادي بقطع النفط، وبسحب الاستثمارات الكويتية من الصناديق العاملة في الدول العظمى، وطرد سفراء تلك الدول. الشارع يغلي، في حين أن الحكومة -تفضل ردات فعل محسوبة العواقب.
وبين هاتين الإرادتين، علينا أن نبحث عن منطقة وسطى، منطقةٍ يمكننا فيها إحداث التأثير. فنحن نتفق على الهدف، لكننا نختلف على الآلية.
المتابع الحصيف يعلم أن مطالبات مثل قطع النفط جميلة لكنها غير واقعية، ولن يُقدم عليها متخذ القرار. نعم، بحماستنا نريد أن نفعل أي شيء وكل شيء لنصرة إخوتنا في فلسطين، لكن علينا أن نعلم أن القرارات السياسية تؤخذ بالعقل لا بالقلب.
لا نريد العودة إلى الستينات والسبعينات ونستذكر ما ترتب عليه من قطع النفط عن الدول الغربية من آثار بعيدة المدى عملت فيها هذه الدول على تقليم القوى العربية لئلا تعود لمثل ذلك، فهذا أمر لا تتسع له هذه المقالة.
نريد أن نسير بخطوات ذكية لا خطوات قوية وحسب، فالخطوات الذكية خطوات قوية بالضرورة. نريد من حكومتنا خطوات تشفي بها غليلنا، وتحدث تأثيراً في «الشارع الآخر» الذي سيضغط بدوره على حكوماته ويشن -إذا جاز التعبير- انتفاضة بالوكالة على حكوماته لتغير سياساتها! نعلم جيداً أن الكويت تستخدم أحيانا ديبلوماسية الدينار، وهي أداة سياسية مفيدة لكنها غير مجدية في مثل هذه القضايا. لذا، نحتاج أن نفكر خارج الصندوق. سيد هذا العصر ليس النفط، بل التقنية والإعلام الجديد.
وأرى شخصياً أن علينا ابتداع سياسة جديدة فلنسمها «الميديا-دينار»! سياسة تستثمر حكومتنا بموجبها في وسائل إعلامية عالمية (مع التنويع بين الإعلام التقليدي والإعلام الجديد ممثلاً في وسائل التواصل الاجتماعي).
هذا الاستثمار سيعطينا مُكنة الإملاء على وسائل الإعلام. فكلنا نعلم أن سياسات وسائل الإعلام يفرضها ممولوها.
نعم، لا أستثني أحداً إلا صُحف الحائط المدرسية التي انقرضت منذ وقت طويل حسب علمي! فلنتخيل، ماذا لو كانت الكويت تملك حصة مؤثرة في شركة ميتا (المالكة لفيسبُوك وإنستغرام)، هل كانت ستجيّر هذه الشركة خوارزمياتها لمنع المحتوى الداعم للقضية الفلسطينية، وتعطي بالمقابل حُظوة للرواية الصهيونية للأحداث؟ ماذا لو اشترت الكويت الحصة الكبرى من الأسهم في بعض القنوات الغربية المؤثرة؟ شاهدنا جميعاً كيف تمكّن باسم يوسف من تغيير المزاج العام لبعض المشاهدين الغربيين حينما ظهر في لقاء مع الإعلامي البريطاني بيرس مورغَن.
أعلم أن الطريق للاستحواذ على كيانات عملاقة مثل هذه شائك ومليء بالعراقيل، لكنه قطاع مهم ومهمل ويستحق المحاولة. وهو -بالمناسبة- قطاع مجدٍ جداً على مستوى الأرباح.
مشكلة «الشارع الآخر» أنه يسمع رواية مُحتكَرة، يسمع صوتاً واحداً.
فهو -ولعقود طويلة- يسمع خطاباً إعلامياً يشيطن ردة فعل الضحية، ويتغافل عن تاريخ الجلّاد.
وجزء من هذا راجع لعقدة الذنب الأوروبية وشعور الأوروبي أنه مدين لليهودي باعتذار مزمن على ما حدث في الهولوكوست، فالصهاينة أحسنوا استثمار هذه الواقعة أيما استثمار ليمنحوا أنفسهم حصانة من النقد.
يعاضد هذا تغلغل الصهاينة في وسائل الإعلام الكبرى، خذوا مثلاً إمبراطورية ميردوخ الإعلامية، هذا على سبيل المثال لا الحصر. نحن أيضاً نملك الأمرين، فلدينا فواجع ممتدة تعادل في مأسويتها مأساة الهولوكوست، ولدينا القدرة -نظرياً على الأقل- على التغلغل في الإعلام العالمي.
ومَن يدري، فقد يتغير واقع القضية الفلسطينية تغيراً هائلاً بسياسة الميديا-دينار، لتكون الكويت ليست فقط الداعم الأول والأشجع للقضية الفلسطينية، بل الأكثر إبداعاً أيضاً.