تبدو حرب غزّة بكل تعقيداتها نتيجة طبيعية لأحداث توالت في المنطقة، أحداث خلقت تراكمات لا يجوز في أي شكل تفادي الاعتراف بوجودها في حال كان مطلوباً التفكير في مرحلة ما بعد حرب غزّة.
أثبتت الأحداث التي شهدها العالم العربي، أو العوالم العربيّة والمنطقة المحيطة بهذه العوالم، في السنوات الماضية، أن ليس في الإمكان تصفية القضيّة الفلسطينية من جهة وتجاهل ضرورة الوصول إلى تسويات سياسية من جهة أخرى.
لا مفرّ من التفكير منذ الآن بما إذا كان في الإمكان الوصول إلى تسوية سياسية تضع حدّاً للدوران في حلقة مغلقة.
يسعى طرفان متطرفان إلى القضاء على أي تسوية سياسيّة مسبقاً. الطرفان هما اليمين الإسرائيلي و«الجمهوريّة الإسلاميّة» في إيران. يسعى كلّ منهما إلى استغلال وجود الحلقة المغلقة التي تدور فيها المنطقة بموجب أجندة خاصة به. يذهبان في ذلك إلى أبعد حدود.
يريد اليمين الإسرائيلي تكريس الاحتلال القائم منذ العام 1967، فيما تعتبر إيران الورقة الفلسطينية مدخلاً لفرض هيمنتها على المنطقة وتأكيد أنّها صاحبة الكلمة الأولى في المشرق العربي والخليج... وحتّى في المغرب العربي.
ثمة حلقات مفقودة، في مقدّمها حسن النيّة الإسرائيلية، في السياق الذي كان مفترضاً أن يؤدي إلى تسوية سياسية تعترف بوجود شعب فلسطيني لديه دولته منذ سنوات طويلة.
هذا الشعب موجود على الخريطة السياسيّة للمنطقة.
يستحيل بالتالي إنكار وجوده على الخريطة الجغرافية للشرق الأوسط بأي شكل. مَن سعى في إسرائيل إلى إنكار هذا الوجود أخذ المنطقة إلى حرب غزّة ومكّن إيران، في الوقت ذاته مَن وضع يدها على القضيّة الفلسطينيّة وعلى قرار الحرب والسلم في المنطقة كلّها.
لعب بنيامين نتنياهو منذ اليوم الأول لتوليه موقع رئيس الوزراء في إسرائيل في منتصف العام 1996 دوراً في غاية الخطورة أوصل إلى حرب غزّة التي بدأت بضربة قويّة لم يسبق لإسرائيل أن تلقت مثلها منذ قيامها في العام 1948.
كان ذلك على يد «حماس» و«الجهاد الإسلامي» اللتين عرفتا كيفية خداع الأجهزة الأمنيّة الإسرائيليّة.
في كلّ ما قام به هذا الرجل، الذي دخل التاريخ من بوابة بقائه في موقع رئيس الوزراء الإسرائيلي لأطول فترة في إسرائيل، لم يكن لديه من همّ سوى فرض أمر واقع على الأرض. ركّز على الاستيطان في الضفّة الغربيّة بهدف قطع الطريق على خيار الدولتين.
يبدو واضحاً أن العالم كلّه يبدو، من خلال المؤتمر الذي انعقد في القاهرة بدعوة من الرئيس عبدالفتاح السيسي، منشغلاً بمرحلة ما بعد حرب غزّة.
استمع هذا العالم إلى كلام رجل عاقل نادى دائماً بضرورة قيام دولة فلسطينية مستقلة تفادياً للوصول إلى الوضع الراهن.
هذا الرجل هو الملك عبدالله الثاني الذي لم يستطع يوماً إقامة علاقة طبيعية مع «بيبي» نتنياهو بسبب معاداته للأردن.
قال عبدالله الثاني، الذي رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي دائماً الإنصات إليه، في قمة القاهرة: «نشعر بالحزن الشديد تجاه أعمال العنف في غزة والضفة الغربية وإسرائيل.
يجب وقف الكارثة الإنسانية التي تجر المنطقة نحو الهاوية. لا يمكن تهميش خمسة ملايين فلسطيني يعيشون (في الضفة الغربيّة وقطاع غزّة) تحت الاحتلال.
نرفض بشكل قاطع التهجير القسري للفلسطينيين وهو خط أحمر لنا جميعاً». شدّد على أن «الأولوية اليوم هي وضع نهاية فورية لما يحدث في غزة»، مشيراً إلى أنّ إسرائيل تجعل حل الدولتين مستحيلاً من خلال تسريع الاستيطان.
إن ما يحدث اليوم هو نتيجة الفشل في تحقيق حل مستدام.
أكّد العاهل الأردني أنّه «يجب إطلاق عملية سياسية تهدف للوصول إلى حل الدولتين ويجب على إسرائيل أيضاً أن تدرك أنّ لا حل عسكرياً للقضية الفلسطينية».
لا يمكن التوصل إلى عملية سياسية، أو حتّى إطلاق مثل هذه العمليّة، بوجود «بيبي» على رأس حكومة إسرائيلية. حسناً، تخلصت إسرائيل من«حماس».
ما الذي ستفعله في اليوم التالي؟ هل يستمر السعي إلى المحافظة على التطرّف الفلسطيني الذي تغذيه «الجمهوريّة الإسلاميّة» من أجل القضاء على خيار الدولة الفلسطينية على الرغم من كلّ الجهود التي بذلتها دول عربيّة عدة مثل دولة الإمارات العربيّة المتحدة أو المملكة المغربيّة من أجل إيجاد وضع طبيعي في المنطقة كلّها بعيداً عن كلّ نوع من أنواع التطرّف ؟
كيف كسر الحلقة المقفلة؟ من الصعب الإجابة عن مثل هذا السؤال من دون التفكير من الآن في حل سياسي يقوم على فكرة العيش المشترك في داخل كلّ دولة من دول المنطقة وعلى العيش المشترك بين دول المنطقة نفسها.
الأكيد أن طرفين إسرائيلي وإيراني لا يصنعان سلاماً، خصوصاً بعدما تبيّن أن إسرائيل تستغل ورقة«حماس» لتهرب بواسطتها من أي سلام ومن أي اعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني «غير القابلة للتصرّف» حسب تعبير قرار صادر عن الجمعية العموميّة للأمم المتحدة قبل عقود عدّة.
في الوقت ذاته، ما العمل في مواجهة الإصرار الإيراني على مشروع توسّعي يقوم على الاستثمار بكلّ أنواع الميليشيات، أكانت سنّية مثل «حماس» أو شيعية مثل «حزب الله» اللبناني أو«الحشد الشعبي» في العراق؟
يمثل «الحشد» عنواناً لميليشيات عدّة تعمل كلّها في إطار إيراني ولا شيء آخر غير ذلك. هذا ما كشفته الكلمة التي القاها رئيس الوزراء العراقي محمّد شيّاع السوداني التي عكست مدى الارتباط بينه وبين الفكر المتحكّم بميليشيات «الحشد الشعبي» وعمق هذا الارتباط.
يصعب أن يكون هناك مستقبل سياسي لبنيامين نتنياهو بعد إسدال الستار على مأساة حرب غزّة التي كشفت استحالة تصفية القضيّة الفلسطينيّة.
من هذا المنطلق، يبدو ضرورياً التفكير منذ الآن بكيفية قيام دولة فلسطينية وشروط عيش هذه الدولة بسلام وأمان مع جيرانها في المنطقة، دولة لديها، على سبيل المثال وليس الحصر، مطارها مثل «مطار ياسر عرفات الدولي»، كما كانت عليه الحال في غزّة بين 1998 و2000...