«طبول الحرب» ليس مرغوباً بها... ومستبعدة
ماذا وراء التصعيد الأميركي باتجاه الشرق الأوسط؟
توَجَّهَ الرئيس جو بايدن في بداية عهده ولسنوات لاحقة، نحو استدراج روسيا إلى الحرب في أوكرانيا، بالتوازي مع ابتعاد الإدارة الأميركية ومنذ أعوام طويلة عن الشرق الأوسط، الذي لم ينتظر كثيراً للمبادرة إلى تنظيم خلافاته وإيجاد التحالفات السياسية - الاقتصادية، تاركاً التوتر جانباً قدر الإمكان.
إلا أن الأسابيع الأخيرة شهدت عودةً لخطاب التصعيد العسكري الأميركي وكأن الحرب واقعة غداً، من دون أن يطرأ أي تغيير يُذكر في السياسة الشرق أوسطية ما بين دول الإقليم. فما سبب هذا التصعيد المفاجئ وإلى أي مدى يمكن أن يستمر؟
يصعب فصل ما يحدث في العالم عما يجري اليوم في الساحة الأوكرانية من كباش روسي - غربي، والأهم من ذلك نتائج هذا التصادم على الساحة السياسية والاقتصادية الدولية.
ومنذ اندلاع الحرب الأميركية - الروسية في أوكرانيا، دأبت وسائل الإعلام العالمية وكبار المسؤولين الغربيين على التأكيد أن القدرات العسكرية والاقتصادية لموسكو دُمرت بالكامل وأن الذخائر الروسية نفذت وأن كييف ستنتصر.
إلا أن شهادة قائد القيادة الأوروبية الأميركية والقائد الأعلى لقوات الحلفاء في أوروبا الجنرال كريستوافر كافولي، أمام لجنة الخدمة المسلحة التابعة للكونغرس الأميركي، تؤكد أنه «رغم جميع الجهود، لم تؤثر الحرب ولا القدرات الغربية العسكرية التي ضُخت لأوكرانيا على القدرات العسكرية الروسية». وهذا يعني أن نتائج الحرب لا تجري كما تتوقعها الإدارة الأميركية.
وتالياً فإن من البرغماتية أن تعيد الولايات المتحدة حساباتها من دون أن تتخلى عن الحرب التي يدفع ثمنها الأوكرانيون من حياتهم وبنيتهم التحتية لأن الخسائر الأميركية محدودة، مادياً ومعنوياً، ولن يُطلب من كييف التوقف عن التضحية في سبيل واشنطن.
لكن كيف تستعيد الولايات المتحدة مكانتها؟
لا يمكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. فالأحادية الأميركية تُجابه بتحديات جدية من دول عدة حول العالم لم تَعُدْ تسلّم بمنطق حكم 4 في المئة فقط من سكان المعمورة للكرة الأرضية جمعاء.
إلا أن واشنطن تستطيع تدارك خطأ التخلي عن الشرق الأوسط، وإظهار نفسها وكأنها عائدة إليه من خلال تدعيم قواتها في سورية والعراق، وإرسال قوات جوية إضافية مع مقاتلات «إف - 16» و«إف - 35» وكذلك «درس إمكان وجود قوات على متن البواخر التجارية المبحرة في مضيق هرمز للتصدي لإيران».
وهذا لا يعني أبداً أن واشنطن تبحث عن الحرب في السنة الأخيرة المتبقية من حُكْمِ بايدن. بل إن الإدارة الديموقراطية تريد الإيحاء بأن الرئيس الأميركي لا يخشى المواجهة وليس ضعيفاً أمام إيران، وهو لن يتخلى عن الشرق الأوسط.
وتالياً فإن «تعويض» بايدن عما خسره في حربه الأوكرانية من نتائج كارثية على حلفائه الأوروبيين وعلى كييف، لا يمكن تحصيله إلا باستعادة ما فقده بابتعاده عن الشرق الأوسط.
لكن الشرق الأوسط لم يعد يسير خلف ما يُساق عن «الفزاعة الإيرانية» التي مازالت أميركا تحاول استخدامها، وتستطيع دوله التضامن في ما بينها لمواجهة الخلافات وإظهارها ومحاولة إيجاد الحلول الممكنة لها أو التعايش معها.
وأصبحت المنطقة تنجز تحالفات على صعد عدة، لكن من دون إقصاء الولايات المتحدة. إلا أن ما ظهر أخيراً هو انكماش كبير للقوة التي تمتعت بها الدول الأوروبية التي استعمرت أجزاءً كبيرة من العالم لمدة 500 سنة.
كذلك ظهرت قدرة روسيا على قبول التحدي الأميركي وعجز دول الغرب مجتمعة على دحرها وإركاعها.
بل إن الرئيس فلاديمير بوتين أظْهر القدرة على السيطرة على الاقتصاد الروسي بإلغائه 23 مليار دولار من الديون الأفريقية ووعده بإرسال مئات الأطنان من الحبوب والأسمدة من دون مقابل للدول الفقيرة في القارة السمراء.
كما أن دول المنطقة قادرة على حرية الحركة، وتدعو إلى مؤتمرات عن الحرب على أمل وقفها.
وهذا ما أرساه التوازن في العلاقات الدولية لدول الشرق الأوسط، بين حفظ علاقتها مع أميركا وتطوير العلاقات مع روسيا والصين ودول آسيا الوسطى وإقامة التحالفات في سبيل تطور الاقتصاد العربي.
من هنا، فإن محاولة أميركا التصعيدية بوجه إيران أو الإيحاء بوجود بوادر مواجهة، لن تنفع ولا تصبّ في مصلحة دول المنطقة التي لم تَعُدْ ترغب بها. إلا أن إدارة بايدن تريد بعث رسالة إلى الداخل الأميركي، عبر رفع مستوى التوتر في الشرق الأوسط، لتقول إنها حاضرة ومازالت مُسَيْطِرَةً على الوضع رغم نتائج الحرب المتواضعة.
هذه الرسائل الانتخابية لبايدن لم تمرّ من دون رد من إيران، برفْع الجهوزية في وجه التصعيد الأميركي، وإظهار قدراتها العسكرية البحرية، والقول إنها لا تخشى واشنطن ولا تصدّق كلمة واحدة من أن الحرب على الطاولة.
هذه الرسائل المتبادلة إن دلت على شيء فعلى أن طبول الحرب ليس مرغوباً بها أبداً، إذ لم تُخلّف سوى نتائج كارثية على المنطقة التي لم تعد دولها ترغب بتكرار هذه التجربة الأليمة.