كنت ألتقيها مع زوجها في مناسبات مختلفة تجمعنا طوال سنوات، سيدة رقيقة، قمة في الذوق والاحترام، تعطي بلا انتظار المقابل، تستقبلك بابتسامة مُشرقة، تفتح باب الحوار المُثمر بلا تكلف، تبذل النُصح في وقته بلا ادعاء معرفة وأدوار زائفة، تتحاشى دوماً إحراج الآخرين والتدخل في ما لا يعنيها، لم تكن شخصية مشهورة على مواقع التواصل الاجتماعي ولكنها في المقابل لم تكن مغمورة تعبر رحلة الحياة كإحداهن بلا أثر ولا صيت، فقد كانت أكاديمية ذات عزم وهيبة.
تعارفنا سريعاً في مناسبات مختلفة كما أسلفت ووجدت أنني عثرت على صديقة كنز ليست كأي امرأة، ولكن وكعادة الأشياء الجميلة سرعان ما تتلاشى، ذات مساء كئيب بنبأ رحيلها فجأة، فقد تعافت منذ سنوات من مرض عضال ألّم بها، بعد رحلات استشفاء متكررة خارج البلاد.
مرت الأيام سريعاً لأكتشف بغتة أن زوجها بعد عشر سنوات من ترجلها عن صهوة الحياة أو من رحيلها، وقد كانت القمر الذي أضاء حياته لسنوات عمّرتها بالبنين وطيب المعشر، ظل الرجل على حاله من الوفاء لقرينته، لم يتزوج بعدها أبداً، ونمى لعلمي أيضاً أنه عندما كانت تشتد عليه الضغوطات من أقاربه خصوصاً أصحابه كان يتمسك بموقفه الرافض لفكرة أن يتزوج بأخرى، قائلاً إنه من المحال أن يجد امرأة في مثل ما كانت عليه زوجته من خصال نادرة، فقد كان يعيش معها «كهارون الرشيد» بمعنى الكلمة بحسب وصفه، ومن جانبي لا أعتقد أنه يجافي الحقيقة.
هذا هو الوفاء المنقطع النظير، ومثال لقمة الإخلاص، أن يرفض رجل في ذروة شبابه الزواج بأخرى وفاءً لحب، لحياة سابقة لم يعد لها وجود لأن صاحبتها لم تعُد تعيش على ظهر الكوكب ببساطة. وأنا أفكر في كتابة مقال عن الوفاء كقيمة إنسانية نبيلة وعظيمة الأثر على الحياة بمعناها السامي خطر ببالي هذا الرجل، المثال الساطع، والنادر بل والأكثر ندرة في زماننا الذي تتوافر فيه البدائل في كل شيء حتى أصبحت العلاقات العاطفية والإنسانية محل تكسب عبر الانترنت.
لا يستقيم شأن الحب إلا بالوفاء والإخلاص كقيم حياتية بين البشر، ولا يمكن لأي كان الادعاء بوجود حب ومودة أو تعلق بشخص آخر دون أن يكون الوفاء ضمن مفردات تلك العلاقة على أي مستوى من العلاقات الإنسانية، فالوفاء إذاً من أرفع وأرقى الصفات البشرية التي تعزز استقرار العلاقات واتصال حلقات الود بين الأفراد والجماعات، وهي عند الله من صفات المؤمن الحق الذي يراعي مقتضيات الايمان والاستقامة في ما يتعلق بعلاقاته مع خالقه ومع الناس.
الوفاء من صفات الصادقين في كل مكان، فعلاقة الصداقة مثلاً بما تحمله من قيم نابعة من طبيعة العلاقة لابد أن يكون الوفاء أساسها، وإلا فإن العلاقة يمكن أن تكون أي شيء غير الصداقة.
وعلى الرغم من ازدياد التعقيد والخلل في العلاقات الاجتماعية بين الناس في وقتنا الحالي، لكني أقول إن الدنيا بخير، ولا يزال ثمة أناس يرتقون بمعنى الحب والصداقة إلى مراتب الوفاء والصدق، وهي صفات كفيلة بأن تُبعد الجفاء والكره والحسد والخيانة والمشاعر السلبية كافة في العالم، فالوفاء قيمة إنسانية لا تموت، وبها تُبنى العلاقات على أساس متين بين الآخرين.
Twitter: t_almutairi
Instagram: t_almutairii
Email: talmutairi@hotmail.com