عندما حاصرتْ التظاهراتُ في مصر نظامَ الرئيس المصري السابق حسني مبارك، كان أوّل مَن هَرَبَ مِن مركب السلطة عددٌ كبيرٌ من الشخصيات السياسية والإعلامية القريبين والمستفيدين من النظام.
تَصَدَّروا وسائلَ الإعلام وكلٌّ منهم يبرئ نفسَه من مرحلةٍ لها ما لها وعليها ما عليها، والقاسمُ المشترَك بينهم جميعاً استخدامهم عبارة: «أنا ياما قلت» و«أنا ياما حذّرت»، للإشارة إلى أنهم كانوا يعارضون مِن الداخل ويحذّرون. قلةٌ قليلةٌ بقيتْ وفيةً لمبادئها ودافعتْ عن مسار السياسة آنذاك ومنهم الإعلامي الراحل عبدالله كمال رئيس تحرير «روز اليوسف» رحمه الله.
لا أدري لماذا تذكّرتُ تلك الحقبة مع الفارق الكبير في المعطيات، وأنا أتابع ردودَ الفعلِ حول إمكانية عودة الرئيس سعد الحريري عن اعتكافه والمطالبة بترؤسه مجلس وزراء ما بعد انتخابِ رئيسٍ للجمهورية.
بغض النظر عن حظوظ العودة أو استمرار قرار الاعتكاف والابتعاد، وبغض النظر عن احتمال انتخاب رئيسٍ جديدٍ للجمهورية أو بقاء القرار أسيرَ زنزانةِ المُمانعة، فإن المُسْتَمِعَ لآراء شخصياتٍ لبنانيةٍ متحمّسة اليوم لعودة الحريري يسترجع حقبةَ «أنا ياما قلت وأنا ياما حذّرت».
تجد شخصاً كان قريباً من الحريري، ومستفيداً منه، يحاذر الدفاعَ عنه عندما استدارتْ الظروفُ وطَوَّقَتْ حركةَ الشيخ سعد وكَبَّلَتْ مشروعَه.
يريد أن يعيشَ، وهذا مفهومٌ، إنما قلة الوفاء لا تستقيمُ مع إرادةِ الاستمرار، بل على العكس تماماً لأن كثرةَ الوفاءِ تبرّر بعضاً من تَفَهُّمِ الظروف الصعبة التي دفعتْ بصاحبها الى تغيير مساره.
قَفَزَ بعضُهم من سفينة «المستقبل» وأدار حلفاء سابقون ظهورَهم لابن الشهيد رفيق الحريري بحجةِ أنّ مشروعَه وصلَ إلى طريقٍ مسدود داخلياً وخارجياً.
ذَهَبَ بعضُهم إلى التهجُّم الشخصي عليه بَدَلَ أن يَسْتر ثُقْبَ استدارته. صار التنظيرُ أكثرَ سلعةٍ رائجة: «أنا ياما قلت إن هيدا القرار غلط وأنا ياما حذّرته من اتخاذ هالخطوة».
أما خصومُه وأصحاب نظرية الـ «وان واي تيكت» فكانوا يردّدون: «أنا ياما قلت أن رهاناته خاطئة وياما حذّرت من أنه سيدفع الثمن» وصولاً إلى عباراتِ تهديدٍ مبطَّنة ومُعْلَنَة.
عندما كتبتُ قبل أشهر مقالاً بعنوان «لا مَناسَبة للكتابة عن سعد الحريري» أستغرب فيه من صَمْتِ ذوي القربى ونَقْلِهِم البندقية من كَتِفٍ إلى أخرى، شَكَرَني بعبارة: «الدنيا دولاب».
ورغم أن الدولابَ لم يبرمْ دورتَه الكاملةَ بعد، إلا أن بعضَ أصحاب المواقف الحادة عادوا لتذكيرنا بالمنطق نفسه: «أنا ياما قلت إن الحياة السياسية اللبنانية لا تستقيمُ إلا بوجود شخصٍ مثل الرئيس الحريري على رأس السلطة التنفيذية»، و«أنا ياما حذّرت من انعدامٍ الوسطية في العمل السياسي اللبناني التي كان يمثّلها الرئيس الحريري»، و«أنا ياما قلت إن الدويلة إذا تغلّبتْ على الدولة انتهتْ الدولة»، و«أنا ياما حذّرت من ضرْب علاقات لبنان العربية لأنها تَعني ضرْبَ الوجود اللبناني نفسه».
مرة أخرى، لم يكن سعد الحريري خالياً من الأخطاء، بل تجاوزتْ التناقضاتُ السياسيةُ التي عاشَها حدودَ التوقُّع.
وهو شخصياً وَفَّرَ على الباحثين المتصيّدين الوقتَ والمادةَ وأقرّ بالكثير من هذه التناقضات وشَرَحَ ظروفَها.
لكن الجميلَ أن بعضَ «مَن قال وحذّر» عاد واكتشف بعدما انهار كل شيء أن لا أحد أكبر من البلد، وأن مشروعَ الشهيد الحريري بتحويل لبنان مستشفى الشرق وجامعةَ الشرق ومصرفَ الشرق ومركزَ سياحةِ الشرق ومركزاً مالياً واقتصادياً للشرق، استُكمل اغتيالُه بالتفجير المتدرّج بعد اغتيال صاحبه بطنيْن من المتفجّرات... ثم تأسستْ غرفةٌ سوداء وظيفتُها الأساسية والوحيدة ضرْب ما يسمى «الحريرية» باعتبارها مسؤولةً عن انهيار لبنان، وكم من لبناني يحلم اليوم بالعودةِ إلى ربع ما كان عليه أيام تلك «الحريرية».
عادَ أم لم يَعُدْ، توافرتْ الظروفُ أم باعدتْ، تقاطعتْ القناعاتُ الدوليةُ مع الداخليةِ على ضرورةِ وجوده أم تنافرتْ... الأهمّ العودةُ إلى ما قاله هو وحذّر منه هو على الصعيد الوطني وليس ما «قالوه» نيابةً عنه أو قالوه عن أنفسهم بعد قراره الاعتكاف الموقت.