«الراي» جالت في أوروبا اللبنانية

البترون... «حورية» بحر لبنان

تصغير
تكبير

- «جمهورية» فرح وسهر وسحر طبيعة... كأنها جزيرة معزولة عن لبنان المأزوم

تكاد تكون البترون خارج لبنان. ساعة تفصلها عن بيروت العاصمة، لكن الواقع أن المدينة الساحلية كأنها تعيش خارج الزمان والمكان. هناك لا أزمة خانقة، ولا كهرباء مقطوعة، ولا انتخابات رئاسية تثقل كاهل المتمدّدين على الحصى البحرية تحت أشعة الشمس.

البترون، كأنها «جزيرة آمنة» ومصنع أمل وسهر وحياة تَمْضي في ثورتها وفورتها السياحية التي جعلتْها «عروس البحر» وأميرة الليل الذي لا يغمض جفنيه، وحارسةَ الفرحِ في نهاراتٍ لا تستريح إلى أن يحلّ «التسليم والتسلّم» مع سهرياتٍ... على فقش الموج.

هي البترون التي لم تقوَ عليها الأزمة اللبنانية وكأن نكبات الوطن الصغير تتوقف عند الأسوار العتيقة للمدينة فترتطم بها كتحطُّم الموج الهادر عليها. هي «الحورية» الطالعة من البحر الشمالي، ومن الموج العالي المتكسّر على صخورها وملحها الذائبِ في أسماكها الشهيرة، تتحول تدريجاً إلى صورة في بطاقة.

الـ «كارت بوستال» الشهير الذي كان يزيّن المكتبات وأسواق التجار، عن بيروت القديمة وصخرة الروشة وصيدا وصور، لم يلحظ البترون إلا في سنواتها الأخيرة، فأصبحت معه صورةً لا تشبه ماضيها المتأرجح بين سنوات الحرب والسلم. البترون الواقعة على تخوم محافظة جبل لبنان في محافظة الشمال، والمرشّحة لأن تكون عاصمة السياحة اللبنانية و«تاجَها» في عزّ صعودها وفورتها النهارية والليلية، هي عاصمة قضاء البترون وقلبه النابض الذي جَعَلَها في الأشهر الأخيرة مَقْصَداً لبنانياً وخارجياً، ومكاناً مثالياً لاستثمارٍ اقتصادي ناشط على كل المستويات عبر رجال أعمال وغالبيتهم من المنطقة ومحيطها الأوسع. عرفتْ البترون أياماً قاسية خلال الحرب والوجود السوري.

الجغرافيا التي وَضَعَتْها بين محافظتين جعلتْ منها مدينةَ التماس بين زغرتا والكورة وطرابلس من جهة وجبيل وكسروان من جهة ثانية، فتقاطعتْ فيها الأحزابُ والتيارات في ظل عباءة «تيار المردة»، إلى أن جاءت مرحلة الخروج السوري (ابريل 2005) فاستعادت أيام التنافس بين «القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر» و«المردة» والعائلات التقليدية.

وشاءتْ الصدف أن يكون رئيس التيار الوطني جبران باسيل من المدينة نفسها التي تصاعدتْ فيها فورة «القوات» وأيضاً حزب «الكتائب»، وعمُّه كان رئيس بلديّتها لسنوات طويلة، فعمل على أن يترك بصمات فيها، نتيجة وجوده وتياره في وزاراتِ خدمات أساسية كالطاقة، وبفعل عمله كمهندس حيث لم ينفكّ يتحدث عن ترميمه البيوت القديمة فيها.

البترون المدينة الساحلية المترامية على شاطىء صخري، عرفتْ مراحل ازدهار متفاوتة.

فخلال سنوات ما بعد الحرب انطلقتْ حركةٌ ناشطة فيها لتحويلها مقصداً للسياح اللبنانيين بالدرجة الأولى، فانتعشتْ بعض المنتجعات البحرية على شواطئها، وتكاثرتْ معها المخالفات البحرية، في حين ظلت المدينة تعاني كغيرها من سوء البنى التحتية فيها وهي اللبنة الأساسية في أي خريطة سياحية.

في هذه المرحلة كانت جبيل، الناشطة على خط القلعة الأثرية وأسواقها القديمة والبحر وميناء الصيادين، تستقطب الزوار، توازياً مع حركةِ مهرجاناتٍ بدأت خلال الحرب عند مينائها وتوسّعتْ تدريجاً لتصبح «مدينة الحرف» رقماً صعباً على لائحة المهرجانات اللبنانية، بعد بعلبك وبيت الدين، ومن ثم الأرز وصور.

المرحلة الثانية التي عرفتْها البترون كانت توازياً مع عام 2000، حين انطلقتْ فيها تدريجاً حركةُ المطاعم والملاهي الليلية وبدأتْ تقيم مهرجانها الخاص، والميلاديات وأسواق حرفية، وصارتْ مقصداً لفئاتٍ شبابية رأوا فيها متنفَّساً يضاف إلى الجميزة (الأشرفية) الصاعدة بقوة لدى اللبنانيين والسياح.

لكن بعد سنواتٍ قليلة انحسرتْ الحركةُ وتَراجَعَ مستوى الخدمات ولا سيما أن البترون لم تتمكّن من الاحتفاظ بحيويتها شتاءً، تحت وطأة انكشافها على البحر العاصف وعدم القدرة على إيجاد توازن بين متطلبات الحياة فيها وقابلية الصمود شتاءً من دون حركة تجارية وسياحية ناشطة.

ومع ذلك ظلت محاولةُ إعاشها قائمةً، فانطلقتْ ورشةٌ كبرى تطال كل المرافق الحيوية فيها، ما حوّل البترون في سنوات قليلة مدينةً شبه كاملة لجهة البنى التحتية والأرصفة والمواقف وتعبيد الطرق الخاصة فيها، وتأمين المتطلبات اليومية، فعادت مجدداً لتكون في قلب الحدَث السياحي.

في أشهر قليلة، دبّتْ الحياة إلى البترون، وكأن سحر البيوت العتيقة، ينده للمقيمين في بيروت وصور والشوف وطرابلس وجبيل وكسروان، آتين اليها مجموعاتٍ وحلقاتٍ من مختلف الأعمار. عجائز على عكازاتهم، أو في السيارات السياحية الصغيرة المتنقّلة بين الأزقة الضيقة، قرب الشبابيك الزرق الملوَّنة بالأبيض والمعلَّقة قرب أبوابها شتول وأزهار ملوَّنة تضيف على المشهد العام سحراً يميّز مدن الأبيض المتوسط. صبايا وشبان يتنقلون فيها وضحكاتهم تملأ أرجاء السماء، أطفالٌ ومراهقون مع دراجات حديثة تُناسِب الطابعَ السياحي، وأدلّاء سياحيون يجولون في فيء القناطر العتيقة بين البيوت المرمَّمة وساحات المقاهي وصولاً إلى الشاطىء.

على الشرفات والسطوح، أمام البيوت والحدائق، تُزَيِّنُ الشتول الطالعة من الشقوق والمتدلّية بأزهارها البرتقالية والليلكية الحجارةَ العتيقة التي تنفض عنها ورشُ المهندسين غبارَ التاريخ القديم وتعيد ترميمها، فيكاد لا يخلو شارعٌ أو حي من ورشةِ إعادة هندسةٍ للبيوت القديمة. تتداخل المنازل السكنية مع الشقق المفروشة للإيجار التي يقصدها السياح للمبيت فيها والسهر ليلاً في عشرات الملاهي الليلية والمطاعم الصادحة موسيقاها في الفضاء الرحب، وتَناوُل الترويقة عند الأفران التي أصبح بعضها مشهوراً بمنقوشة الزعتر البلدي، فيصطفّ أمامها الناس لتناولها باكراً قبل أن يقصدوا البحر المفتوح مجاناً وشاطئه الصخري.

في الشوارع الضيّقة تشبه البترون بعض الأحياء العتيقة في المدن السياحية الأوروبية، حيث الألوان البحرية الزرقاء والبيضاء تتداخل مع الأعشاب الخضر ولون الحجارة الرملي، وأغطية وكراسي طاولات المقاهي الملوَّنة.

ولكل مطعم ومقهى خصوصيته وأفكار متنوعة لجذْب السياح، وهم صاروا بالآلاف. فاسم المدينة يتردد على لسان صبايا وشباناً يَؤمونها من خارج لبنان لزيارة المدينة البحرية والسهر فيها. في قلب الأحياء العتيقة والنظيفة، يصبح أهل المدينة الأصليون على تماسٍ مع الازدهار الذي أَنْعَشَهم في عز الأزمة الاقتصادية، حيث الأعمال التجارية التي صارت تؤمّن مكسباً مالياً، والحرفيات التي صارت مقصودة لكل أنواعها من حقائب وثياب وقبعات وحلي، والمونة اللبنانية، وتضاف إليها الأنشطة الرياضية والصيد والمطاعم وما توفّره من وظائف لأبنائها بالمئات، ما يجعل عائلات بأكملها تتمتع بعيش كريم. في الأزقة الضيقة تختلط روائح البحر مع الأسماك المفروشة عند بعض بيوت الصيادين القريبة من المرفأ الذي يُرمم في شكل دائم وترتفع منارته فوق القوارب الخشبية المتأرجحة تحت شمس الصيف الحارقة.

صيادون يفرشون غلاتهم، أمام مَن يشتري الاصداف البحرية الطازجة وأنواع المأكولات البحرية.

والصيادون لم يعودوا يخشون شظف العيش والاتكاء على زبائن سياح، إذ صارت المطاعم المنتشرة على طول الخط البحري وفي قلب المدينة، زبونهم الدائم. فحركة المطاعم لا تهدأ، والزبائن يحجزون مسبقاً، والطاولات المترامية قرب الرصيف البحري وعلى الطريق الساحلية تعجّ بهم والحجوز تكاد تكون مئة في المئة، فيما الزبائن الجدد يقفون خارج المطاعم على لوائح الانتظار لطاولة شاغرة.

في أشهر قليلة ارتفع عدد المطاعم، منها المحلي والخاص ومنها ما هو ضمن سلسلة مطاعم تمتدّ من بيروت الى كسروان. والآتي الى البترون لن يكون بإمكانه إلا تَناوُل أسماكها، كما ليموناضتها الشهيرة. الليمونة الصفراء التي أعطت للبترون سمعة تَناوُل شراب منعش مثلج يقف الزبائن صفوفاً طويلة طالعين من البحر أو الآتين في رحلات سياحية لإرواء ظمئهم به. وهم يتنقلون في جولة سياحية تبدأ عند كنيسة سيدة البحار التي تطل على البحر المترامي فيحتشد أمامها الزوار لمشاهدة المنظر البحري الفريد، وينتقلون منها الى كنيسة مار اسطفانوس التي تشرف على مرفأ الصيادين الذي يشهد كل صيف قداساً سنوياً على نيتهم والبحارة، وحيث تقام احتفالات تذكارية وتضاء الشموع والقناديل تحيةً لمَن ابتلعهم البحر.

وفي الشوارع التي تقود إلى حي الانتشار اللبناني وبيوت الاغتراب فيه، تكثر المقاهي المنتشرة على أنواعها من الشاطىء الى قلب المدينة النابض. عجقة المتنزهين المنتظرين حلول المساء والسهر فيها، تدلّ على ليل صاخب. والجلسات الصيفية صباحاً، تتحول ليلاً متفجّراً، فتصير البترون بحسب روادها مدينة مسائية أخرى.

بين الموسيقى العربية والغربية، وحشود الشبان والشابات يصبح الليل مكاناً لعشق آخَر ولجو مختلف تمتزج فيه الموسيقى والرقص والحياة، بكل ما تقدمه المدينة من أنواع مختلفة للسهر والاحتفالية بالحياة. ليل المدينة نهار.

والذين يبيتون فيها بعد تجربة مثيرة من السهر المتفلّت من حزن اللبنانيين وأوضاعهم الاقتصادية، يعرف أن ما ينتظره صباحاً في البترون دورة حياة جديدة، حيث المدينة الناعسة تفرك عينيْها تدريجاً على وقع موجة جديدة من الراغبين في استطلاع ما تقدّمه لساعاتٍ قبل العودة الى الحقيقة.

إنها البترون «جمهورية الفرح والسهر» إحدى عجائب لبنان الجديدة في حلة الصيف والحياة وموسيقى البحر وأمواجه.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي