الحرب القذرة المحفوفة بالمفاجآت و... الأخطار العظمى

تصغير
تكبير

يبدو أن جميع الأسلحة أصبحت مباحة في «الحرب القذرة» التي تدور رحاها على الأراضي الأوكرانية.

و«الإمبراطورية الأميركية العظمى» - التي سيطرت على العالم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1992 وهي لم تبلغ الـ216 عاماً من عمرها منذ إعلان استقلالها عن الإمبراطورية البريطانية عام 1776 - لن تعلن عن سقوطها بسهولة إلا بعد جرّ روسيا معها وأقلّه دول أخرى مثل أوكرانيا والاقتصاد الأوروبي.

وتالياً فإن دعم أوكرانيا بالسلاح والمال والعتاد والاستخبارات، كما أعلن يوماً الجنرال مارك ميلي رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية، هو أرخص حروب الولايات المتحدة وأقل دعم يقدّمه البيت الأبيض، كما قال السناتور ليندسي غراهام.

من هنا فإن الغرب أبلغ أوكرانيا بأن تستعد لحرب استنزاف طويلة ما دامت روسيا لم تتراجع بعد السنة الأولى من القتال.

لقد أصبح واضحاً ان أميركا لن توقف الحرب إلا بعد الانسحاب الروسي من أوكرانيا. وما يساعدها على هذا القرار الإستراتيجي عوامل عدة، أهمها ارتفاع الروح المعنوية الأوكرانية والتضامن الوطني والعداء لروسيا من جهة، وكذلك الدعم الأوروبي الذي ما زال صامداً خلف الولايات المتحدة مهما ارتفعتْ الخسائر في هذا المعسكر.

وفي الإطار، فإن أعداد القتلى والخسائر المادية والمال المتدفّق للمجهود الحربي الأوكراني يُعتبران أضراراً جانبية للحرب الكبرى الدائرة بين الجبّاريْن الروسي والأميركي.

ومن ضمن هذه الأضرار تفجير أنبوب الغاز «نورد ستريم -2» الذي يصل روسيا بألمانيا، وقصف موسكو والكرملين بالطائرات المسيَّرة، والهجوم على الأراضي الروسية، وتفجير جسر القرم، واغتيال ابنة الفيلسوف الكسندر دوغين في تفجير سيارة، أو نسف سد نوفا كاخوفكا، ونقل المعركة إلى المدن ذات الغالبية الروسية في أوكرانيا وحتى داخل الأراضي الروسية.

وتالياً فإن الولايات المتحدة تريد إجبار روسيا على زجّ أعداد أكبر من الجنود لتوريطها أكثر في الحرب ورفْع خسائرها وقلب الرأي العام الداخلي ضد قادته.

ولن تتيح المياه التي غمرتْ خيرسون والدفاعات الروسية في الجهة الجنوبية من المدينة، فتْحَ ثغرة للجيش الأوكراني - الذي خسر أكثر من 350 ألف جندي وضعف العدد من الجرحى - لينتصر على روسيا.

ومن الممكن، في ظل غياب تحقيقات جدية، أن يكون تفجير سد نوفا كاخوفكا قد أعاق مخططات الغرب في الهجوم المضاد.

ومن الطبيعي أن يتضرر الطرفان من هذه الحرب التي لم تصل بعد إلى درجة الخطر الأكبر واستخدام الأسلحة النووية.

فقد أحضرت أميركا إمكاناتها - دون جنودها - وإمكانات حلفائها إلى ساحة المعركة.

ودفعت روسيا بطاقتها العسكرية والانتاجية الحربية إلى الدرجة القصوى وتضرّرت اقتصادياً من خلال قفل أوروبا أبواب التعامل التجاري وشراء الطاقة الروسية والعقوبات الغربية عليها واحتجاز أرصدتها المالية.

وانكشفت كقوةٍ كلاسيكية غير جبارة رغم مواجهتها لإمكانات وعقول جنرالات تابعين لـ 50 دولة مجتمعين في قاعدة رامشتاين الألمانية لإدارة الحرب في أوكرانيا.

إلا ان موسكو لا تحتاج إلى جيشٍ جرّار لمقاتلة واشنطن إذا دفعت بجنودها وجنود حلف «الناتو» إلى ساحة الوغى، إذ حينها - وهي التي لا تملك القوة العسكرية اللازمة - ستلجأ إلى الأسلحة النووية لفرض الردع والتوازن.

ولهذه الأسباب لم ترسل الدول الغربية جحافل جيوشها إلى المعركة واكتفت بدعم أوكرانيا التي قبلِت بالخسائر مقابل الانضمام إلى المعسكر الغربي.

وتريد أميركا - في ظل إدارة الرئيس جو بايدن - إبقاء الحرب «لسنة أو 6 سنوات أو 16 سنة»، كما قالت مساعدة وزير الخارجية الأميركية فيكتوريا نولاند.

إلا ان لهكذا قرار- الذي يعتمد على الرؤساء الأميركيين المتعاقبين - نتائج وتبعات بدأت تظهر إلى العلن. فأكثر من 70 - 75 في المئة من دول العالم تمرّدت على سلطة أميركا ورفضت فرض العقوبات على روسيا.

وتحركت الدول المُنْتِجة للنفط لخفض الإنتاج عام 2023 وسيتبعها خفض آخَر في 2024، ما يعاكس مصلحة أميركا الاقتصادية ولجْم الأسعار النفطية.

ودفعت الحرب في أوكرانيا، كلاً من روسيا والصين إلى تضامن عسكري في إطار حلفٍ إستراتيجي لم يحصل منذ «مئة عام»، كما قال الرئيس الصيني شي جينبينغ خلال زيارته للرئيس فلاديمير بوتين.

كذلك اندفعت عشرات الدول - ومنها حليفة لأميركا - للتعامل التجاري والنفطي بالعملة المحلية والابتعاد أكثر عن الدولار الذي فَقَدَ نصف سيطرته الدولية واشتدّ عضد محور «دول البريكس» الذي يتلقى طلبات جديدة للانضمام إلى صفوفه.

إذاً، هو مسار لن يتوقف مهما حصدت أميركا من أرباح أو خسائر.

وتالياً فإن استعراض العضلات الجوية لحلف شمال الأطلسي من خلال مناورات «ديفندر 23» الجوية وإشراك 24.000 جندي أوروبي وأميركي لتوجيه رسائل لروسيا والصين لن يغيّر في المعادلة شيئاً.

فالدول القوية والمهدَّدة من أميركا تستخلص العِبَر من الحرب الدائرة الآن في أوكرانيا ولن ترتكب الأخطاء نفسها التي ارتكبتْها موسكو في استخدام القوة غير الخشنة في بداية المعركة وإعطاء أوكرانيا الوقت الكافي لتردّ بعدما جهزت أميركا وحلفاؤها المعركةَ منذ العام 2014 تحت أنف موسكو لتدوم لسنوات طويلة ولقطْع التعاون الأوروبي - الروسي غير المتوقع من قادة الكرملين.

وتحاول أميركا إغراق روسيا بتكتيكات حربية مزعجة من دون دفع موسكو للتخلي عن المعركة ورفض تقبل الخسارة العسكرية مهما ارتفع الثمن وخصوصاً ان العقلية الروسية تتحمّل خسائر لسنوات طويلة، علماً أن بوتين مجهّز اليوم اقتصادياً أكثر مما كانت عليه موسكو عام 1979 عندما اجتاحت الجيوش السوفياتية أفغانستان وانسحبتْ بعد عشر سنوات. ولكن العِبرة بعدد سنوات الحرب وقدرة الطرفين على تحمل الخسائر المستقبلية.

من الممكن أن يكون الصراع في أوكرانيا «آخِر هزّة في الماضي الامبراطوري لأوروبا ونذير شؤم لتنافُسٍ قادم في عالم بلا قوة مُهَيْمِنة»، كما قال نائب رئيس الوزراء وزير الدفاع الإسترالي ريتشارد مارليس.

وتابع المسؤول الأوسترالي الحليف للولايات المتحدة «اننا نشهد عالماً ترى فيه الدول إمكان بناء نظام عالمي جديد وفقاً لرؤيتها. من الأهمية ان يرى العالم من خلال مثال أوكرانيا ان الخسائر الناجمة عن أي عدوان عسكري ستفوق بكثير أي منافع متصوَّرة. اننا نرى انهياراً هائلاً للنظام العالمي (الأميركي)».

لن يتمكّن هذا النظام المهيمن من المحافظة على أحاديته المُطْلَقة، حتى ولو تمكّن بقدراته الهائلة من استخدام شتى الوسائل المتاحة للدفاع عن موقعه.

فالأخطاء الإستراتيجية التي ارتكبتْها أميركا وحلفاؤها في إعلان الحروب من دون الاكتراث للخسائر التي تصيب البيئة أو أعداد القتلى والأموال الطائلة المدفوعة للدمار والقتل واحتلال الدول وتدمير الاقتصاد من خلال معاقبة المتمّردين، وأخيراً بالتصميم على كسر روسيا، هي أخطاء لا يمكن إصلاحُها.

لذلك يتوجب على العالم ألا يتفاجأ بعد اليوم من تدمير السدود وإمدادات الغاز، بل إن «الدفاع» عن الأمبراطورية التي تزعزعت قوتها يستوجب أثماناً أكثر من ذلك بكثير، وتالياً فإن الدول الكبرى أثبتت قدرتها على السير بين الألغام وعلى حافة الهاوية ولكن إلى متى؟

إنها حرب قَذِرة محفوفة بالمفاجآت وبالأخطار العظمى من دون شك.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي