انقلاب أردوغان على أردوغان ضمن حدود

تصغير
تكبير

انقلب رجب طيّب أردوغان على رجب أردوغان. لكنّ انقلابه بقي ضمن حدود معيّنة رسمتها له الدولة التركيّة العميقة بمؤسساتها المختلفة، وهي دولة تجمع بين الروح القوميّة من جهة والتوجه الإسلامي المعتدل، بعيداً عن فكر الإخوان المسلمين، من جهة أخرى.

عمليّاً، تخلّى أردوغان عن أوهامه المرتبطة بفكر الإخوان، بما في ذلك إحياء أمجاد الدولة العثمانيّة، وشكّل حكومة تعكس وجود دولة تركيّة عميقة تفكّر في مرحلة ما بعد حرب أوكرانيا التي خسرها فلاديمير بوتين.

صحيح أن الحكومة التركية الجديدة تجمع، في جانب منها، بين التناقضات، خصوصاً في ما يتعلّق بالنظرة إلى الوضع السوري، لكنّ الصحيح أيضاً أنّها تعطي فكرة عن رغبة لدى الدولة العميقة في التصالح مع الواقعين الإقليمي والدولي.

شكّل أردوغان حكومة من نوع آخر بغية تفادي مزيد من الفشل، خصوصاً في المجال الاقتصادي. استعان بوزير سابق للاقتصاد من أصول كرديّة يؤمن بأن خفض التضخم يتم عبر رفع سعر الفائدة لا خفضها وذلك على العكس من كلّ ما يؤمن به الرئيس التركي الذي لم يستطع عبر الاقتصاديين الذين أحاطوا به الحدّ من تدهور العملة الوطنيّة ووقف التدهور الاقتصادي.

وزير المال الجديد هو ميهمت (محمد) شيمشيك الذي ولد في أسرة كردية في قرية صغيرة في ولاية باتمان. سبق أن عيّنه أردوغان وزيراً للمال ثم أعفاه من منصبه في ضوء خلاف بينهما في شأن معالجة مشكلة التضخم.

يبدو واضحاً أن الرئيس التركي اضطر إلى قبول التعاطي مع الواقع. أكّد أحد مستشاري أردوغان وهو إلنور تشيفيك في هذا الشأن أن شيمشيك هو الذي سيقرر ما يجب عمله لخفض التضخم.

يظهر أنّ المؤسسات التركيّة فضلت بقاء أردوغان في موقع الرئيس. في النهاية كان في استطاعة هذه المؤسسات إسقاطه عن طريق التأثير في المناطق الريفيّة التي سمحت للرئيس التركي بالتفوق على منافسه كمال قليجدار أوغلو الذي رشّحته المعارضة بتوجهاتها المختلفة من دون برنامج سياسي واضح.

اختارت مؤسسات الدولة التركيّة الاستقرار على كل ما عداه في انتظار تبلور الأمور على الصعيدين الإقليمي والدولي.

في ما يخصّ التناقضات داخل الحكومة التركيّة الجديدة، يمكن ملاحظة إنّ هاكان فيدان وزير الخارجية الجديد فتح قناة اتصال مع النظام السوري عندما كان مديراً للاستخبارات التركيّة.

أمّا وزير الدفاع يَشار غيولر، فقد عمل من موقعه العسكري السابق كرئيس للاستخبارات العسكريّة ثمّ رئيساً للأركان على دعم المعارضة السوريّة، بما في ذلك «الجيش السوري الحرّ» وكان له دور محوري في هذا المجال.

كذلك، كان غيولر من بين الذين يؤثرون بشكل أساسي في ليبيا.

اللافت أيضاً أن وزير الداخلية الجديد علي إرليكايا، وهو من حزب العدالة والتنميّة، يرتبط بعلاقة جيدة مع اللاجئين السوريين، منذ كان والياً لغازي عنتاب ثم لاسطنبول وهو متعاطف بشكل لافت مع قضية الشعب السوري.

عاد رجب طيّب أردوغان رئيساً، لكنّه لن يمتلك حرية الحركة كاملة. هناك رجال أقوياء في حكومته مثل إبراهيم كالين وزير المخابرات، الذي لديه نظرة إيجابيّة لحلف شمال الأطلسي.

سيكون على أردوغان التخلي عن أحلامه الوردية التي أطاحها فشله الاقتصادي إضافة إلى تحالفه، بين حين وآخر، مع فلاديمير بوتين الذي لم يخف دعمه له وتفضيله على مرشح المعارضة.

المفارقة أنّ رئيس النظام السوري بشّار الأسد كان يراهن على سقوط أردوغان. رفض بشّار طلب بوتين عقد لقاء معه قبل موعد الانتخابات الرئاسيّة التركيّة.

مثله، مثل الرئيس التركي، سيكون على الأسد التعاطي مع مرحلة ما بعد الحرب الأوكرانيّة التي صارت نتيجتها معروفة سلفاً مع بدء الهجوم الأوكراني المضاد.

دخلت تركيا مرحلة جديدة مختلفة عن العهدين الأولين لأردوغان الذي حاول لعب دور السلطان العثماني إلى أن كشفه الزلزال الذي وقع في السادس من فبراير الماضي. أظهر الزلزال حجم الفساد في تركيا وأنّها مجرد دولة من دول العالم الثالث.

ستدخل تركيا قريباً مرحلة ما بعد التخلص من القيود التي فرضتها عليها معاهدة لوزان قبل مئة عام.

ستحتاج إلى رجل يمتلك رؤية بدل التهوّر كما الأمر مع أردوغان الذي فشل حتّى في إقامة علاقة معقولة مع دولة جارة مثل اليونان.

ستكون أمام الرئيس التركي فرص عدّة كي يثبت أنّه تغيّر وهل في استطاعته إعادة العلاقات إلى طبيعتها مع الدول الأوروبيّة.

قد يساعده في ذلك نائب رئيس الجمهورية الجديد جودت يلماز الذي كان في الماضي وزيراً للتخطيط، كما كان مكلّفاً الملفّ الأوروبي.

سيكون الموقف من انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) القضيّة العاجلة التي ستشكل امتحانا لأردوغان. نفذت السويد كلّ المطلوب منها لتكون في الحلف. كان انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي من نتائج الحرب التي شنها بوتين على أوكرانيا وشعبها.

ما الموقف الذي سيتخذه الرئيس التركي الذي لديه حسابات يريد تصفيتها مع السويد؟ الأكيد أن الموقف الإيجابي من السويد ومن انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي سيكون رسالة تركيّة توحي بأن أردوغان تغيّر... وأنّه تخلى عن سياسة الابتزاز التي مارسها في الماضي القريب في تعاطيه مع أوروبا.

تبقى الخلاصة أنّ أردوغان يمتلك الكثير من البراغماتية. تؤكّد ذلك طبيعة العلاقة التي ربطته بإسرائيل.

حاول المتاجرة بالقضيّة الفلسطينيّة في مرحلة معيّنة وذهب إلى حد السعي إلى محاولة خرق حصار غزّة. كان ذلك في العام 2010.

عندما اكتشف أنّ ذلك ليس ممكنا تراجع وأعاد العلاقات بين تركيا وإسرائيل إلى طبيعتها. سيتوجب عليه في السنة 2023 مراجعة كلّ نهجه السياسي وذلك بضغط من الدولة التركيّة العميقة.

تعرف هذه الدولة العميقة أن العلاقة التركيّة - الأميركيّة علاقة عضوية وأن ليس في استطاعة تركيا الخروج من دائرة النفوذ الأميركية... مهما طال الزمن ومهما تغيّرت أحوال المنطقة!

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي