ليمونادة الذكاء الاصطناعي!

تصغير
تكبير

مِن الآلة الحاسبة وصولاً إلى المصحح الإملائي الآلي، كلها تقنيات وُجدت لتريح الإنسان، وتوافر وقته، وتقوم بالمهام الدنيا تاركة في عقله متسعاً لمهام أعقد. ثم حدث ما كنا نراه بعيداً؛ جاءت التقنية لتفكر نيابة عن الإنسان، وتأتي له بأجوبة لا تخطر بباله، وتكتب نيابة عنه مقالاته وبحوثه!

ليس الذكاء الاصطناعي بجديد، بل يعود - صدقوا أو لا تصدقوا - للخمسينات من القرن الماضي. كانت منتجاته تأتينا تسير الهوينى، تزرع نفسها في تربة حياتنا، ويتشربها نسيجنا المجتمعي على مهل. إلى أن قررت الشركة القائمة على ChatGPT إتاحته للجماهير أواخر العام الماضي، محدثة موجة ضاربة أترعت النسيج الحياتي والمجتمعي بتغييرات متلاحقة أكبر من أن يتشربها. هذا ونحن الذين لم نستفق بعد من التغييرات التي أحدثتها، ولا تزال تحدثها، ثورة وسائل التواصل الاجتماعي في حياتنا.

تغيرت قواعد اللعبة، وتحولت التقنية من مُعِين للإنسان في أداء مهامه الفكرية إلى بديل مرشح للاستحواذ على أهم مزايا الإنسان. لطالما فاخرنا -نحن البشر- بتميزنا على سائر المخلوقات بعقولنا الفائقة، ويبدو أن هذه مسألة صار فيها نظر. فقد جاءتنا تقنية قادرة على التعلم مثل الإنسان، وعلى التفكير، وهضم المعلومات، وترتيبها منطقياً، والاستنتاج، ثم كتابة كلام منطقي متماسك بلغة بشرية. وسنعتمد عليها، كما فعلنا مع الآلة الحاسبة التي جاءت في المقام الأول لتساعدنا ثم صار جُلّنا لا يستطيع إجراء العمليات الحسابية دونها، وكما المصحح الإملائي الآلي الذي جاء ليوفر علينا الحرج، ثم صرنا نهمل في كتابتنا لأننا نعلم أن المصحح الآلي سيقوم بالواجب. وها نحن نسمع هذه الأيام تجارب الناس مع الـChatGPT الذي قدم لهم مشورات تعادل مشورة الخبراء، وأجابهم عن أسئلة يعز من يجيب عنها.

وبعيداً عن الكسل الفكري الذي سيصيب البشر جراء هذه التقنية، هناك مثلب أخلاقي خطير يحيق بها، وهو استغلال هذه التقنية لأداء الواجبات الدراسية، بل وحتى الوظيفية. فقد يلجأ إليها طالب لتكتب له بحثاً مكتمل الأركان، وقد يستعين بها موظف لتكتب له تقريراً. وكأن نكبتنا مع الغش الدراسي ليست كافية، حتى تأتي هذه التقنية لتزيد الطين بلة. لا تخلو هذه التقنية من المثالب، وأهمها ظاهرة «هلوسة الذكاء الاصطناعي»، إذ تنسج التقنية إجابات غير صحيحة (وأحيانا مضحكة) إذا سئلت عن أمر لا تعلمه. لكن هذه التقنية ستظل تطور من نفسها، وستزيد جودة ما تكتب إلى الحد الذي يصعب حتى على التقنيات اكتشاف إذا ما كان النص مكتوباً من قِبَلها أم من قِبل إنسان حقيقي.

القطار انطلق، ولا سبيل لإيقافه، بل علينا أن «نحول الليمون إلى ليمونادة» كما يقال! فلتكن هذه فرصة ميمونة لنعيد النظر في آليات التقييم الدراسي. فقد كانت الجامعات والمؤسسات الدراسية منذ قرون خلت تقيم الدارسين شفهياً وعلانية. ثم صارت الاختبارات التحريرية والواجبات والتكاليف المكتوبة النمطَ المعتاد لتقييم الطلبة. وهذه طريقة عملية، وسهلة، وموضوعية وبريئة من الانحياز إلى حد كبير، ومناسبة للأعداد الهائلة من المتعلمين. لكنها في المقابل أفرزت طلبة بقدرات أقل على الكلام، والتعبير عن الذات، والمناقشة، والجدال. وهي مهارات كانت من صميم نظم التعلم القديمة.

فهل يا ترى نقول «قديمك نديمك» ونعود لأنماط التعلم القديمة التي يتسيد الموقف فيها حضور الذهن، وسرعة البديهة، والقدرة على ربط المعلومات؟ أم نوائم بين نوعي التقييم؟ الأكيد أن المسألة معقدة، ولا جواب شافياً لها... أو مهلاً، دعونا نسأل ChatGTP فقد يكون لديه الجواب المُسكت!

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي