إستراتيجية «القوة الناعمة» و«صفر مشاكل»... وإنهاء الأزمات
أردوغان الجديد... نحو سياسة متجددة مع الرياض والقاهرة ودمشق وبغداد
كما كان متوقَّعاً، انتُخب الرئيس رجب طيب أردوغان لخمس سنوات جديدة، تُضاف إلى سنواته الـ 20 في السلطة.
إلا أن سياسته السابقة لن تبقى كما هي حيال محيطه العربي - الإسلامي، بينما لن يَحدث تغيير كبير تجاه دول الغرب، لأن هدف الرئيس القديم - الجديد هو النهوض الاقتصادي الذي يُعوَّل لحصوله على إنهاء خلافاته وتنشيط استثمارات الدول الخليجية - العربية في الدرجة الأولى، وهي دول اتخذت في الفترة الماضية تقارباً يدعو إلى «تصفير» المشاكل في المنطقة، في ظل ابتعاد الغرب وانشغاله بمحاربة روسيا ومحاصرة الصين.
ومن المتوقع أن يغيّر أردوغان سياسته الخارجية تجاه دول الشرق الأوسط، وحتى حيال سورية والعراق، عبر استدارةٍ أقوى مما اتّبعه في الفترة الأخيرة بالمصالحة مع دول عدة في الخليج ومع مصر، ومحاولته فتْح قنوات الحوار مع الرئيس السوري بشار الأسد.
سورية والعراق
من غير الوارد أن ينسحب الجيش التركي من سورية والعراق، لأن أنقرة تعتبر أن السياسة الأميركية الداعمة للأكراد - الذين يَعتبرهم أردوغان («حزب العمال الكردستاني» وفروعه السورية والعراقية) «إرهابيين» - لن تتغيّر تجاههم وستُبْقي على دعْمهم عسكرياً.
فأكراد سورية والعراق يُعتبرون جزءاً من الأمن القومي الأميركي، يحافظون على مصالح الولايات المتحدة وانتشار قواتها في كلا البلدين، ويُستخدمون، خصوصاً في العراق، كقوة رديفة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن فرع «الكردستاني» السوري، (وحدات حماية الشعب)، يحمي القواعد والقوات الأميركية وحقول النفط والغاز التي تستخرجها الشركات الأميركية وتبيع إنتاجها إلى الخارج، بعد إمداد القوات الأميركية المرابضة في سورية والعراق.
ولذلك فإن الملفين السوري والعراقي معقّدان بالنسبة لتركيا، التي لن تجلس على طاولة المفاوضات للاتفاق على الانسحاب من هاتين الدولتين من دون وجود حلول أمنية - اقتصادية تتّفق عليها دمشق وأنقرة وبغداد، وتعالج أسباب تواجد القوات التركية من دون رضى الدول المعنية.
وقد أعلن أردوغان قبل انتخابه الأحد، أنه لن ينسحب من سورية، وهو وقف ضد منافسه كمال قليجدار أوغلو الذي بنى حملته الانتخابية على ترحيل الـ 3.5 مليون لاجئ سوري من تركيا.
أما على أرض الواقع، فقد شهدت الأيام الماضية تقدُّماً للمسلحين التابعين لأنقرة على محور خان شيخون، واشتباكات مسلحة حتى على خط الـ M-4 الذي يربط حلب وإدلب بالغرب السوري.
وقد فُسر ذلك من دمشق كضغط سياسي بهدف تحسين المفاوضات التركية - الروسية - السورية - الإيرانية التي تدفع نحو إيجاد مسار يهدف إلى اندماج المناطق الشمالية الخاضعة للنفوذ التركي وعودة المهجرين بعد إصلاحات تقّدمها دمشق وصولاً لإنهاء التواجد التركي المحتل في الشمال - الغربي السوري.
تركيا ودول الشرق الأوسط
بعد عودة سورية إلى الجامعة العربية والتحضير لفتْح غالبية السفارات العربية أبوابها في دمشق، بدأت سياسة «النفوذ الناعم»، تظهر إلى العلن ما يدل على تَحوُّل سياسي متقدّم. وقد تجلى ذلك بالمفاوضات البنّاءة التي أجراها الرئيس السوري بشار الأسد أثناء وجوده في قمة جدة العربية.
ومن أهم النقاط، هي المصالحة السورية - السورية التي تتلاقى مع الأهداف التركية - العربية والسورية - التركية.
فعودة ملايين المهجرين إلى حضن سورية من جديد يحتاج إلى دعْم اقتصادي وتحضير بنية تحتية لبلاد الشام لن تستطيع أي دولة المساهمة فيها إلا الدول الغنية بالنفط التي بدأت تَنظر إلى كيفية إيجاد حلول لمشاكل المنطقة بعيداً عن الأدوار الغربية.
ولذلك قال الأسد إنه مستعد للمصالحة الداخلية بعدما أبدت الدول العربية الرغبة بمساعدته على إعادة بناء الدولة على أساس أن الخطوة الإصلاحية الداخلية تقابلها خطوة مقابلة اقتصادية عربية.
هذا التقارب يصبّ أيضاً في مصلحة أردوغان الذي يطالب بالمصالحة مع سورية والوفاق الداخلي ليرضي الحلفاء في الشمال السوري.
بالإضافة إلى ذلك، فقد أظهر الغرب رغبته برؤية أردوغان يرحل، كما كتبت صحفه على مدى أسابيع الحملة الانتخابية، حيث «شيْطنتْ» الرئيس التركي الذي ربح بناء على رغبة داخلية.
لذلك فإن أردوغان يعلم أن عودته إلى دول عربية مؤثرة، وإيجاد حلول لاحتلال قواته أراضي في الدول المجاورة، تمثّل أحد أهم العوامل التي ستساعده على تقديم نموذج جديد لحزب العدالة والتنمية الذي ينتمي إليه، لأن الأهداف الخارجية تُعدّ شبه هامشية بالنسبة للناخب التركي في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والبلدية.
يُذكر أن أقل من نصف الناخبين الأتراك صوّتوا لبرنامج المعارضة بإخراج المهجّرين (السوريين والأفغان والباكستانيين وغيرهم)، وتالياً لا يستطيع أردوغان التغاضي عن امتناع أكبر مدن تركيا عن التصويت له، مثل أنقرة وأزمير، خصوصاً إسطنبول العاصمة الاقتصادية التي تحوي 11 مليون ناخب، وهي التي أوصلتْه إلى السلطة بعدما كان مُحافظاً للمدينة العام 1994.
لذلك، ينبغي على الرئيس الجديد الاتجاهَ نحو الاستماع لرغبات جزء كبير من الأتراك بمعالجة قضية اللجوء وتلبية طلباتهم بتحسين ظروف عيشهم وإعادة القيمة الشرائية للعملة التركية التي تدهورت كثيراً في الأعوام الأخيرة.
ولتحقيق هذه الأهداف الداخلية، على تركيا الاتجاه نحو تحسين العلاقات مع جيرانها لتخفيف الضغط على اقتصادها، وفتْح أبواب الاستثمارات للدول الشرق أوسطية الغنية بعد إنهاء كل الخلافات معها.
وهذه الخطوة لم تعد تمنياً أو خياراً لأردوغان، بل أنها إستراتيجية لا بد من إتباعها إذا أراد للشعب أن يدعم حزبه مستقبلاً وألا يتجه الأتراك مستقبلاً نحو أحزاب المعارضة التي فرضت للمرة الأولى دورة ثانية للانتخابات الرئاسية واستطاعت الاقتراب كثيراً من بلوغ الرئاسة.
لذلك من المؤكد، أن يتجه أردوغان لسياسة أكثر انفتاحاً على دول الشرق الأوسط لدعم اقتصاده، وهو ما لن يُقدّم له مجاناً ولكن مقابل تحويل المنطقة إلى «صفر مشاكل» وإنهاء الأزمات، خصوصاً أن تركيا هي بوابة أوروبا، وثاني أكبر دولة في حلف «الناتو» ولديها نفوذ في الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا.
وتالياً فإن انضمام أنقرة إلى إستراتيجية «القوة الناعمة» وابتعادها عن الحروب وتفضيل التفاوض على استخدام القوة الخشنة، يُعْطيها مقعداً متقدماً في الشرق الأوسط يبدأ من بوابة الرياض والقاهرة ودمشق وبغداد.