استمرار روسيا بالحرب... إضعافٌ لأميركا وحلفائها
ضربت طائراتٌ مسيَّرة مبنى الكرملين في موسكو، وأخرى مواقع تخزين النفط داخل الأراضي الروسية، في تطورٍ بدا معه ان أميركا تنقل الحربَ إلى الداخل الروسي بدل إبقائها محصورةً في الساحة الأوكرانية.
فهل هي مخاطرة أميركية غير محسوبة هدفها دفْع موسكو للخروج عن روعها والذهاب نحو صِدام مباشر مع واشنطن؟
إن الرئيس فلاديمير بوتين يدرك بالطبع أخطار التصعيد في وجه أميركا، ولا ريب بأن موسكو تعلم أن خيار صِدامها المباشر مع واشنطن غير مطروح إلا في حال نشوب حرب نووية.
لذا لا نية للكرملين بإرسال جنوده إلى مواجهة كلاسيكية مع الولايات المتحدة وحدها أو مع حلفائها مجتمعين.
ومن الواضح أن لأميركا خبرةً طويلة في إدارة الحروب بسبب احتلالها مدناً عدة وكونها تملك الأسلحة المناسبة لذلك. بينما لا تملك روسيا جيشاً يستطيع مواجهة حلف شمال الأطلسي المؤلف من تحالف 31 دولة في معركة كلاسيكية، وتالياً فإن أي حرب ضدّ روسيا سيكون للسلاح النووي فيها الكلمة الأولى وهو ما سينتج عنه بالتأكيد تدميراً شاملاً لدول عدة أو عواصم ستمحى من الوجود مع سكانها.
هذا السيناريو غير مطروح بتاتاً، لأن الضربة التي وُجهت نحو موسكو لم تُحْدِثْ سوى أضراراً بهيْبة روسيا وعلَمها المرفوع فوق الكرملين.
وهذا دليل على أن المسيَّرات وُجهت من الداخل الروسي ولم تقطع مسافة مئات الكيلومترات لتصل إلى قلب موسكو وتحلّق فوق أكثر المباني حماية.
وهذه رسالة تشي بوجود حلفاء لأميركا داخل روسيا، وهذا ليس بجديد لأن للدولتين العظميين - كما لدول متعددة أخرى - عملاء يعملون في الخفاء لمصلحتها ضمن أجهزة الاستخبارات، وتالياً فإن هذه الضربات لا توجب رداً نووياً لأن الخروق الأمنية متبادَلة في شكل متواصل بين الدول.
ومن هنا فإن الولايات المتحدة - التي تدير المعركة الأوكرانية في قاعدة رامستين الألمانية ومعها 50 دولة أخرى، كما أعلن وزير الدفاع الأميركي لويد أوستين - تدرك حجم رد الفعل لـ «المعركة بين الحروب».
وتالياً فإن الضربة غير موجَّهة من أوكرانيا التي لن تتجرأ على مواجهة روسيا لعِلْمها برد الفعل الذي، مهما بلغ مستوى عنفه، سيعود بالتدمير الإضافي للبلاد.
بل إنها من دون شك جزء من التقدير الأميركي المدروس والذي لا يهدف سوى إلى إلهاء روسيا وتوجيه أي ضربة لها، من دون الإكتراث لنتائجها البعيدة عن التسبُّب بأضرار مباشرة لأميركا التي يبدو أنها تتقبل نتائجها غير المباشرة وتتعامل معها في حينها.
لا يمكن لروسيا سوى الرد بقصف أوكرانيا لإشعار قادة كييف بحجم الأضرار التي تَنزل بهم من جراء إدارة الولايات المتحدة للمعركة ضد روسيا.
وتستطيع روسيا قصف أوكرانيا في شكل موجع.
كما بإمكانها الرد على أميركا في ساحات أخرى مثل سورية أو إيران عبر تسليم أسلحة متقدّمة لحلفائها، أو في أميركا اللاتينية أو ساحات أخرى.
وتالياً فإن الكرملين لن يردّ بقصف البيت الأبيض أو اللجوء إلى استخدام أسلحة غير تقليدية.
وهذا يعني ان لروسيا مساحة لتحمُّل الضربات الأميركية من دون إخراج موسكو عن روعها ودفْعها لارتكاب خطوات غير محسوبة أو متسرّعة لحرْف النظر عن هزيمة الجيش الأوكراني وعن فقدان شهية أوروبا للاستمرار في الحرب.
واستطاعت روسيا بصمودها ومواجهة الغرب مجتمعاً أن تُحْدِثَ خللاً في الهيمنة الأميركية على العالم التي دامت أكثر من 75 عاماً. وتوجّه موسكو ضربةً أخرى للهيمنة المالية للدولار - بمساعدة دول البريكس وبلدان عدة بدأت تنوّع خياراتها المالية - بزعزعة مكانته ودعْم اليوان الذي بدأ نجمه بالتصاعد على حساب الدولار واليورو والجنيه الإسترليني.
بالإضافة إلى ذلك، فقد أدى فشل أميركا في فرْض الهزيمة على روسيا في أوكرانيا في الأشهر الأولى من الحرب وصمود موسكو العسكري والاقتصادي ضد أقوى دول العالم الغربية مجتمعةً إلى ضعضعة الصف الأوروبي الذي تَوَحّدَ بداية لـ «تَقاسُم الكعكة» الروسية وقَبِلَ على مضض بتخريب خط الغاز الروسي - الذي اعتُبر الشريان المستقبلي لألمانيا واقتصادها وصناعتها - أملاً بهزيمة روسيا على يد أميركا.
إلا ان انتصار روسيا يتجسّد ليس بالتقدم الطبيعي لقواتها على أرض أوكرانيا، بل بفشل الأهداف الأميركية التي أعلن عنها قادتها بإزاحة بوتين وضرب الاقتصاد الروسي.
وتالياً فمن غير المتوقع أن تأخذ موسكو التحدي الأمني الأميركي بضرب الكرملين إلى مستوى أعلى من التصعيد.
بل ان إستمرار الحرب هو رسالة كافية لروسيا لضرب الحلف الغربي ووحدته واستمرار الضربات العسكرية والاقتصادية لأوكرانيا (منْعها من تصدير الحبوب والقمح) التي تُعتبر الخاسر المباشر الأكبر للحرب والتي تَدفع كلفة باهظة جداً لقرارها بالانضمام إلى المعسكر الغربي.
من غير المعلوم إذا كان سيبقى شيءٌ يُذكر من الأراضي الأوكرانية إذا إستمرت الحرب لسنوات أخرى. وهذا مصير الدول الصغيرة التي تضع نفسها في الوسط بين معركة الجبّاريْن.