في الصف الثالث من المرحلة الإبتدائية في حولي، كنا ننتظر دخول أستاذ اللغة العربية الذي يهيم بالعربية عشقاً، ليس لغةً فحسب، بل دولاً وشعوباً وموارد وماضياً ومستقبلاً (كان يظنه مشرقاً)... أستاذنا الذي لا أذكر اسمه، ولكن تختزن ذاكرتي بعضاً من ملامحه الجادة غير الغاضبة تماماً مثل جدية الأب المحب لأبنائه الحريص عليهم.
دخل الأستاذ متأبطاً دفتراً تتوسط أوراقه خيزرانة طولها نحو نصف متر لم يضرب بها أحداً. وزع أنظاره علينا ثم قال: «قيام»... فوقفنا مثل العسكر أمام ضابطهم... ثم أردف: «تعظيم سلام»، فأدينا له تحية عسكرية منضبطة. نظر إلينا راضياً ثم قال: «ارسال»... وما إن أنزلنا «أرسلنا» أيادينا حتى أتبعها بكلمة «جلوس»... فجلسنا وكلنا شوق لبدء حصته التي يجيد تحبيبنا باللغة العربية خلالها.
حدثنا كثيراً هذا الأستاذ المتفاني في عمله ومسؤولياته التربوية عن العالم العربي ومنابع قوته وتاريخه ومواقعه المشرفة، وما زلت أذكر شرحه لـ«سلة الطعام» القادرة على إطعام العالم العربي كله لو أُحسنت زراعتها... إنه السودان يا سادة، الذي كان جزءاً من مملكته السابقة (مملكة مصر والسودان) ثم صارت مصر مصراً والسودان سوداناً... وكان بالطبع يحمّل المحتل مسؤولية الانقسام (بسبب خطوط السكة الحديدية التي مدها الإنكليز)! وهي كما كان يقول «ذات مقاسين مختلفين ما بين البلدين لخلق نواة الانقسام عبر خلق نقطة نهاية وبداية»... هذا كان كلامه بحرقة عن التشظي الذي يصيب بلادنا العربية.
المهم أن الأيام قد مرت وبعدما استمر التشظي وبعدما صارت (المملكة) مصر لوحدها والسودان لوحدها... انشطر السودان سودانين شمالاً وجنوباً... واليوم هذا الجزء السوداني العربي المتبقي من هذا البلد الجميل يتشظى مجدداً بين أبنائه المتحاربين لنرى ما نراه يومياً من مشاهد مؤسفة محزنة مبكية منذرة بمجاعة وأمراض وأذى كثير سيدفع ثمنه الأطفال والأبرياء قبل غيرهم.
يا للهول يا أستاذي الذي لا أعلم إن كان حياً ورأى اليوم ما لم يكن يتوقع حدوثه أبداً... أم أنه بين يدي الله وهذا أرحم لمشاعره وقلبه العروبي الكبير الذي كان سينفطر كمداً وحزناً على ما يحدث.
سلة الطعام العربية تلك التي كنت تبشرنا بها يا أستاذ كان فيها (نيلان) وأراضٍ خصبة وقطعان ماشية على مد الأفق، ناهيك عن ثرواتها التعدينية وقدرات أهلها وثقافتهم العالية.
هل أنسى الدكتور حسن أبشر الطيب (السوداني) الذي كان أول من علمنا - ونحن طلبة جامعيون - معنى «العصف الذهني»... وأول من علمنا كيف نطلق لعقولنا عنان التفكير والإبداع من دون قيود؟
... هل أنسى الطيب صالح (السوداني) ذا القلم العذب والثقافة الكبيرة، الذي أغرمت بكتاباته، لأكتشف لاحقاً أنه صديق شخصي لدكتوري الجامعي.
... هل أنسى زملاء المهنة من السودان، الذين كانوا ممن تعلمت ألف باء الصحافة في لندن على أياديهم الكريمة؟
... هل أنسى الشاعر الفذ الهادي آدم الذي قدم أيقونة «أغداً ألقاك» إلى أم كلثوم؟... واليوم نتساءل: «يا سودان... (أغداً ألقاك)... بخير؟ (أغداً ألقاك)... بسلام؟ (أغداً ألقاك)... بوحدة؟».
ثم أُكمل وأجيب: «يا خوف فؤادي من غدِ».
حفظ الله السودان وشعبه الطيب من كل مكروه وأبعدهم عن شبح المزيد من التمزق.
ختاماً...
كلمة نوجهها للسودان والكويت وكل دولنا العربية... دول الحلم الذي لم يتحقق... أي تربية للبغضاء بين أبناء البلد الواحد تجعله هشاً ضعيفاً قابلاً للانشطار والتشظي عند أول أزمة حقيقية تواجهه.
والعكس صحيح... عدم بث ثقافة الكراهية والبغضاء بين الناس تزيدهم وحدة وتعاضداً وتلاحماً، فتكون وحدتهم هي الدرع الواقية الحقيقية بمواجهة أي محنة والقدرة على اجتيازها... والله من وراء القصد.
هذا راسنا... وهذا كرياسنا
أخيراً، صدر مرسوم حل مجلس الأمة (مجلس 2020)، وبالتالي الدعوة لانتخابات جديدة خلال الأسابيع المقبلة، آملين وداعين الله أن يكون مجلسنا المقبل (مجلس ثبات)، فيكمل مدته بعد أن يؤدي أعماله بالأمانة والصدق.
إذا كنت تسير إلى الأمام وربعك يهرولون، فسوف يسبقونك كثيراً، فما بالك إذا كنت واقفاً مكانك وربعك يهرولون؟ وما بالك إن كان بعضهم يمارس الركض السريع؟ ستكون بينك وبينهم مسافات ضوئية يصعب تعويضها.
هذا هو شعورنا اليوم ككويتيين في محيطنا الخليجي الجميل، آملين أن نجد مجلس أمة يتعاضد مع الحكومة وتتعاضد معه، فتتكامل الجهود والأفكار لنلقي بمرحلة الارتباك - التي لم نكن نعرف خلالها راسنا من كرياسنا - وراء ظهورنا، ونلج مرحلة الثبات في المضي قدماً لنكون في الموقع الذي نستحق أن نكون فيه مع جيراننا الأعزاء. ودمتم.