يا ريتهم ماتوا

تصغير
تكبير

فنانةٌ سوريّةٌ اسمها سوزان نجم الدين تحدّثت عن مأساةِ الزلزال الذي ضَرَبَ سورية وقالت إن عائلاتٍ بكاملها تدمّرت وعائلات عاش منها ناس «فاللي عاشوا أصعب ويا ريتهم ماتوا يمكن».

طبعاً تحدّثتْ الفنانةُ بعفويةٍ، وقد يكون التعبير خانَها فلم تُحْسِنْ استخدامَ عبارةٍ لائقة أكثر، لكن هذه العفوية تعكس في بعض جوانبها جزءاً من مخزونٍ اجتماعي يتكوّن تاريخياً في ممالك الرعب، حيث يصبح الانكسارُ الإنساني ممراً إلزامياً للتعايش مع الخوف ثم القهر... فالموت.

في بداياتِ الثورة السورية، لم يكن المستفيدون من النظام وحدهم مَن خشي على المصالح الخاصة، بل امتدّت الخشيةُ إلى أناس طيّبين عاديين يعشقون في قرارة أنفسهم التغييرَ والتطورَ والعيشَ في ظل حياةٍ طبيعية، لا خطوات احترازية يومية فيها ولا خوف ولا زوار فجر، لكن فكرةَ العيشِ في ليل أطول في ظل موازين القوى الداخلية والتنكّر الدولي تُرْعِبُهُم، فيتخوّفون من القادم «لأن الأمور ماشية»... حتى لو كان شكلُ الحُكْمِ والسيطرة معروفاً ومذموماً.

جزءٌ كبيرٌ جداً من السوريين تَعايَشَ مع الخوف منذ وصول البعث الى السلطة وبالتالي حُكْمِ العائلة، في ظل تجارب كثيرة تتعلق إما بآلاف اختفوا في التصفيات المتعلّقة بالسلطة أو أمثالهم الذين خرجوا هياكل عظمية من السجون وكُتب لأُسَرِهم «منحة» دفْنهم.

وهنا، قد لا تكون بريئةً أو معاديةً تلك الأخبار والصُوَر التي تتحدث عن مجازر جماعية في سجن تدمر أو الوحشية التي تم التعامل فيها مع حماة... وربما كان القصدُ ترسيخَ هذا التعايشِ مع الخوف تحسباً لمصائر مُشابِهَة.

جزءٌ آخَر من السوريين تَعايَشَ مع القهر.

بدءاً من المعاملات في أي دائرة حكومية، مروراً بالتوظيف وتأمين لقمة العيش، وانتهاءً بتركيب الملفات والجرجرة على الفروع الأمنية ومن ثم انطلاق الواسطات وتقبيل الأيادي للإفراج عن الموقوفين والتعهد بعدم الشكوى أو التذمر والتعاون مع الأمن في مكانِ العمل أو السكن.

التعايشُ مع القهر يشمل أيضاً وجوبَ الصمت خوفاً من قَطْعِ اللسان إن اقتضى الأمرُ في حال اختفى قريبٌ أو اغتيل صديقٌ أو اعتُقل مفكّرٌ أو إعلامي أو شاعِر. هنا، عليك النسيان كي لا تَلْحَقَ به إلى حيث يُقيم... ولا يقعد.

بعد انطلاق الثورة السورية وخطوط الرئيس باراك أوباما «الخضراء» التي وَضَعَها أمام النظام السوري وتَجاهُلِ العالم لواحدةٍ من أكبر حروب الإبادة، سادتْ ثقافةُ التعايش مع الموت بشكل مُخيف.

وذكرتْ تقارير في بداية الثورة، نُشرت في أكثر من وسيلة إعلامية، أن بشار الأسد أبلغ الروس عبر ممثّلين له أنه يمكن أن يُنْهي المسألةَ بأربعين ألف قتيل وأن الروسَ ردّوا عليه بوجوب عدم تَجاوُزِ هذا العدد كي يتمكّنوا من مساعدته دولياً.

تَجادَلَ المعلّقون في حجْمِ العددِ، وتَناسوا أن مبدأ التعاطي مع مسألة الاحتجاجات السياسية بالموتِ أولاً هو الموتُ نفسُه.

خرجتْ فيديوهاتٌ بشكلٍ مدروسٍ تُظْهِرُ «الشبيحةَ» وهم يُجْبِرون الأهالي والمتظاهرين على إسباغ صفاتِ القداسةِ على بشار الأسد ثم يقتلونهم بشكلٍ وحشي، فيما القصدُ هنا أن مَن لا يخشى عدالةَ السماء لن يهتمّ بأي رهانٍ على عدالةٍ ما في الكرة الأرضية.

أكملتْ البراميلُ وطائراتُ الروس وميليشيات إيران حصْد الآمنين، وتَبَيَّنَ أن رقمَ الـ 40 ألفاً كان «طُعْماً» في سنّارة النظام لقياسِ ردود الفعل الدولية... وبعدما اطمأنّ، ضَرَبَ العددَ بعشرة أضعافه ثم بعشرين ضعفاً.

لم يَعُدْ الموتُ خبراً مهماً في صحيفة المأساة السورية الأكثر توزيعاً وانتشاراً. لم تَعُدْ عناوينُ أطفال الكيماوي وأعدادُ الراحلين تثير شهيةَ العالم للقراءة. صارتْ الفجيعةُ أقرب إلى الإحصاء.

يُقتل السوري بالخوف والقهر والموت، برصاصِ قَنّاصٍ أو صاروخِ راجمةٍ أو قذيفةِ مدفعٍ أو برميلٍ متفجّرٍ أو بالغاز.

يُقتل بلعبةِ محورِ الممانعةِ خلق مجموعاتٍ متطرفة تُكْمِلُ ما بدأه النظام.

يُقتل في مخيمات الذل وقوارب الأكفان... ويُقتل بزلزالٍ أبقاه أياماً تحت الأنقاض وسط منْع وصولِ الرافعات والجرافات والمساعدات، ما اضطره إلى نصْب شواهد قبور عليها ألوان ملابس الضحايا مثل «ذات الرداء الأخضر».

عبارةُ الفنانة سوزان نجم الدين «يا ريتهم ماتوا» لم تكن هفوةً، بل هي جزءٌ من سيادةِ ثقافةِ التعايشِ مع الموتِ في ظلّ نظامٍ يَعتقد أنه يحيا أكثر كلّما كَتَمَ نَفَساً.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي