من الخميس إلى الخميس

للأدباء في عصرِ العِلم

تصغير
تكبير

الأدب يختلف عن العلم، فالعلم لغة أرقام ومعادلات تُنهي النقاش؛ أما الأدب فلغة مشاعر وأحاسيس تتنوع فيها المعاني وتختلف فيها الآراء، يُقال إن (الأدب لن تُقال فيه الكلمة الأخيرة)، وهو تعبير مجازي يُراد فيه إخراج الأدب وتعبيراته الشاعرية من مادية الأرقام وجمود العلوم، فإذا اختلف محبو الأدب في قراءة نص ما فربما لن يُعرف أي منهم كان على صواب، فالأدب وصف للأحاسيس وقد لا تجد اثنين يحملان القدر نفسه من تلك المشاعر، وحتى لو وجدتهما فلن يكونا قادرين على الإفصاح والبلاغة بالدرجة ذاتها، وأدباء العرب محظوظون بلغتهم، فقد وفرّت لهم هذه اللغة إبداعات بالفصاحة وإبداعات بالبلاغة.

فإذا كانت الفصاحة هي البيان، فإن البلاغة هي الوصول إلى المعنى المُراد بكل مشاعره، فالفرق بينهما في مزج المشاعر بالكلمات، يقول الله تعالى على لسان موسى عليه السلام {وأخي هارون هو أفصح مني لسانا} (القصص 34)، فالفصاحة هنا تعني طلاقة اللسان وإيضاح الحجة، أما في البلاغة فيقول الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم {وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً} (النساء 63) يقول الزمخشري أي قولاً مؤثراً في أنفسهم.

ولقد اختلف ادباء العرب منذ أيام الجاهلية في ما بينهم، فمنهم من أفصح عن مراده دون مراعاة البلاغة التي حملها السامعون في عصره، لقد كان أول من انتُقد بقوة هو الشاعر الجاهلي امرؤ القيس في أبياته الشهيرة التي يصف بها تسلله لخدر (عنيزة):

ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة

فقالت لك الويلات أنك مرجلي

وما تبع ذلك من مخالفات ذوقية تأباها مروءة العرب، أما الذين غَلبت عليهم البلاغة في المشاعر فمنهم عنترة العبسي حين أنشد (تعيرني العدا بسواد جلدي وبيض خصالي تمحو السوادا) ولو اهتم عنترة بالفصاحة عوضاً عن البلاغة لأدرك أنه لم يُحسن الدفاع عن سواده بل أقرّ بحجة أعدائه وغلبت عليه البلاغة فاحتج بسمو خصاله ليكسب عاطفة السامعين.

ومِن أشهر من غلبت عليه البلاغة في مشاعره هو (أبو العلاء المعري) المولود عام 973م حين قال:

واني وإن كنت الأخير زمانه

لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل

وقد أحرجه صبي صغير قال له: لقد وضع الأوائل ثمانية وعشرين حرفاً، فهل لك أن تزيد عليها حرفاً! لقد نال المتنبي أيضاً نصيبه من النقد في الفصاحة والبلاغة من الشاعر والأديب الكبير أبو منصور الثعالبي المولود عام 961م في كتابه المعنون (أبو الطيب المتنبي ما له وما عليه).

أما في العصر الحديث فإن سقطات الشعراء والأدباء تتعدى البلاغة والفصاحة حتى تصل إلى بنية الجملة وأحياناً إعرابها، وإني أستذكر بيتاً لإيليا أبو ماضي يقول فيه:

فكرت فيما نحن فيه كأمة

وضربت أخماسي إلى أسداسي

وطبعاً لا تضرب العرب الأخماس إلى الأسداس إنما تضربهما ببعض، لا شك أن الأدباء ومحبي الأدب سيختلف بعضهم معي، وهذا هو الأدب.

إن أجمل ما في الأدب أنه لم تُقل فيه الكلمة الأخيرة ولن تُقال.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي