الرأي اليوم
أبطال الهِمم... سامحونا
تعيشُ الكويت واحدةً من أكبر أزماتها السياسيّة نتيجة انسداد أُفق التعاون بين المجلس والحكومة... ومع ذلك فلن أكتب عن هذا الموضوع.
ويعيش الإقليم واحدةً من أسوأ مراحله بعد تغلّب صوت الصدام على صوت التعاون... ومع ذلك فلن أكتب عن هذا الموضوع.
ويعيش العالم تهديداً بحرب عالمية ثالثة إثر الغزو الروسي لأوكرانيا وانعكاس ذلك سقوطاً اقتصادياً وغذائياً لا يتوقُّف... وأيضاً لن أكتب عن هذا الموضوع.
ما سأكتُبه اليوم، وقد تأخّرت كثيراً في ذلك، أقرب إلى القلب والوجدان من كل ما يُحلّله العقل سياسيّاً وإستراتيجيّاً وعسكريّاً واقتصاديّاً. ما سأكتُبه يبدو ظاهريّاً أخفّ وطأة من ثقل السياسة وانحدار مستوى الأداء لدى الكثير من السياسيّين لكنّه في جوهره يستنفر الضمائر ويستدرج الدمع ويحني الظهر.
الصُّدفة وحدها قادتني إلى «كافيه 312» في الكويت حيث وجدتُ تجربةً فريدةً تتمثّل في أن جميع العاملين في هذا المقهى هم من ذوي الاحتياجات الخاصة. تجربة من الصفاء والفرح والأمل تحيي في إِنسانيّتك ما أبعدته عنها مهنة المتاعب، وتعيد للعاطفة انتظاماً شوّش عليه كثيراً الغرق المُستمرّ في التحليل والتفكير وتفسير الحوادث. أنت هنا في عالم آخر يلعب أصحاب الهِمم أدوار البطولة فيه وتستمتع جداً بإرادتك كونك المُستمع والمُتلقّي والمُتفاعل.
أبطال الهِمم في عموم الكويت لكم منّا اعتذار كبير، ولا يشفع لنا نهائيّاً انغماس كلّ منّا في عمل مُعيّن لتبرير نسيانكم. ولنعترف أنّنا في بلد الخيرات والإنسانية تركنا أمر الاهتمام بكم إمّا إلى أسركم الكريمة وحدها وإمّا إلى المُؤسّسات المُختصّة وهي تعمل بنشاط تشكر عليه، ولم نُعمّم ثقافة التعايش المِهني والتعليمي معكم ونُحوّلها نهجاً اجتماعياً يبدأ من دروس الأطفال وينتهي بسوق العمل مُروراً باستثناءات في الدراسة الثانوية أو الجامعيّة.
أبطال الهِمم، أنتم لستم أصحاب إعاقة أو حاجات خاصة فحسب، بل إن مُعاناتكم على مدى الساعة تستولد طاقة إنسانيّة جبّارة تفيض علينا وتضيء لنا الدروب التي أقفلناها بيدنا وأفكارنا ومفاهيمنا الخاطئة... وكم من سليم في الجسد والدماغ حوّلته أفكاره النافرة والمُنفّرة إلى مُعاق حقيقي، وكم من صاحب مُشكلة جسديّة حوّلته مُعاناته إلى قائد في مجال عمله.
سامحونا لأننا قصّرنا معكم، وأنتم أصحاب القلوب الملائكيّة التي لا تعرف غير الطيبة والغفران. واعذرونا لأنّنا لم نحوّل الاهتمام بكم من نطاقي العائلة والمؤسسات إلى ثقافة مُجتمعيّة تساعد في جعل تفاصيل حياتكم اليومية أقرب إلى عمل طبيعي يُشجّع على الظهور أكثر بدل المُجاهدة لإثبات النفس والانكفاء خجلاً أو إِحراجاً... الخجل والإحراج نحن من يشعر به.
كم تمنّيت، وسط هذه المشاغل السياسيّة حول جواز إِسقاط القروض أو عدم جوازها أن تسقط القيود التي تحول دون تقدّمكم في مُختلف المجالات التي تقدرون عليها فالله لا يكلّف نفساً إلّا وسعها. أمّا ما يتعلّق بشراء الفوائد ففائدة وجودكم في الحياة الوظيفيّة الطبيعيّة أثمن وأغلى من كل عمليات البيع والشراء.
وكم تمنّيت، وسط انشغال السلطتين بالطبيعة والبيئة والمحميّات أن ننشغل بتأمين بيئة طبيعيّة لكم في المجتمع، وأن تسقط كلّ أسوار المحميّات المُحيطة بكم للانفتاح على المدى الأرحب. ورغم المشروعية المُطلقة للتركيز على حل قضية الإسكان كم تمنّيت إسكان هؤلاء الأبطال في ضمائرنا... فتُصبح عقولنا بيوتاً لهم وليس قلوبنا ونبضات التعاطف العابرة فحسب.
تملأ معاملات العلاج الصحي في الخارج الحياة السياسيّة ضجيجاً بين من يعتبرها أمراً مُستحقّاً ومن يعتبرها استجابةً لواسطات، وينكفئ الحديث حول صِحّة أبطال الهِمم مع أن «واسطتهم» أولى ومُوصى بها شرعيّاً وأخلاقيّاً. ويقف هؤلاء في آخر السلم الوظيفي وربما خارجه أحياناً بينما تضجّ الأخبار بأسماء المُرشّحين للتوظيف ورغباتهم في الانتقال من مكان إلى آخر... وليت كشف الوظائف اللائقة بذوي الاحتياجات ينتقل إلى أماكنهم مع جهود خاصة واستثنائية وعِلميّة لإقناعهم بتسلّمها.
الأمثلة تطول وتطول. قُلتُ في البداية أنّ ما سأكتبه يبدو ظاهريّاً أخفّ وطأة من ثِقل السياسة لكنّه في جوهره يستنفر الضمائر ويحني الظهر. وأعلم أن دمج أبطال الهِمم الكامل في الحياة الطبيعيّة ما أمكن يستلزم ثقافةً مُجتمعيّةً مع تشريعات إِلزامية بتقريبهم في كلّ المجالات الوظيفيّة والتعليميّة والصحيّة والخدماتيّة من الصفوف الأولى.
... وكم كان فنجان القهوة من أيدي هؤلاء في «كافيه 312» مُختلفاً عن كل الفناجين الأخرى، وكم كانت سعادة الحوار مع العاملين فيه غامرة نقيّة لا يشوبها تصنّع أو مُبالغة، وكم كان الصفاء مساحة تمنّيت تعميمها في الكويت وخارجها.
السياسة تنتظر ولن تُوأَد أزماتها... أبطال الهِمم لا ينتظرون ولا خير فينا إن وَأَدْنَا أحلامهم.