لا وجود لوضع طبيعي في لبنان. يعيش البلد خارج كلّ منطق في وقت اعترف فيه رياض سلامة حاكم «مصرف لبنان» (المصرف المركزي) بفقدان العملة الوطنية ما يزيد على تسعين في المئة من قيمتها.
كان السعر الرسمي لليرة اللبنانيّة 1507 ليرات للدولار. ثبّته حاكم المصرف المركزي عند 15 ألف ليرة للدولار. الواقع أن العملة اللبنانية تتداول في السوق السوداء في حدود 60 ألف ليرة للدولار.
تبدو الليرة اللبنانيّة مقبلة على مزيد من التدهور في الأيّام والأسابيع القليلة المقبلة في غياب أيّ أمل في انتخاب رئيس للجمهورية... لجمهورية فقدت كلّ مقومات وجودها في غياب أي قدرة لدى الزعماء اللبنانيين على التصالح مع المنطق.
هل يستطيع «مصرف لبنان» الدفاع عن سعر 15 ألف ليرة للدولار، مثلما دافع طوال ما يزيد على ربع القرن عن سعر 1507 ليرات للدولار؟ الجواب أنّ ذلك يبدو مستحيلاً في بلد تسيطر عليه «الجمهوريّة الإسلاميّة» في إيران التي حولته إلى مجرّد «ساحة» تفعل فيها ما تشاء بعدما أزالت الحدود السوريّة - اللبنانيّة.
بات «حزب الله»، بطلب من إيران، طرفاً مباشراً في الحرب التي يشنّها النظام السوري على شعبه. أكثر من ذلك، باتت الحدود مع سورية مفتوحة أمام كلّ أنواع التهريب، بما في ذلك تهريب الدولار، وليس أمام الميليشيات التي تقاتل إلى جانب النظام السوري فقط.
من دون مواربة وسعي إلى الهرب من الواقع، لا يمكن للبنان أن تقوم له قيامة في غياب مؤسسات الدولة والأسس التي قام عليها الاقتصاد اللبناني، خصوصاً بعد انهيار النظام المصرفي.
كان هذا النظام العمود الفقري للاقتصاد لسنوات طويلة. ثمّة حاجة إلى عشرات السنين لإعادة الحياة إليه... هذا إذا عادت الحياة إلى لبنان يوماً.
لم يعد مطروحاً انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفاً لميشال عون الذي انتهت ولايته في الحادي والثلاثين من أكتوبر الماضي. مهما فعل المسيحيون ومهما توصلوا إليه من اتفاقات، يظلّ السؤال هل في استطاعتهم انتخاب رئيس من دون موافقة «حزب الله»، أي إيران؟
الجواب أنّ ذلك مستحيل بعدما صار مصير لبنان مرتبطاً بما سيحدث في «الجمهوريّة الإسلاميّة». صار لبنان رهينة لدى إيران لا أكثر وذلك منذ موافقة عون على أن يكون مرشّح «حزب الله» بترتيب من صهره جبران باسيل الذي أخذ على عاتقه توفير كلّ الضمانات المطلوبة منهما، أي من عون وباسيل.
لابدّ من التذكير مجدداً بأنّ لبنان انتهى لحظة توقيع وثيقة مار مخايل في السادس من فبراير من العام 2006 بين حسن نصرالله وعون. لا تشبه تلك الوثيقة، في خطورتها، سوى توقيع اتفاق القاهرة في العام 1969.
سمح ذلك الاتفاق المشؤوم لمنظمة التحرير الفلسطينية بتقاسم السيادة على الأرض اللبنانيّة مع الدولة اللبنانيّة. سمح الاتفاق للفدائيين الفلسطينيين بشنّ عمليات على إسرائيل انطلاقاً من الأراضي اللبنانيّة. جاءت وثيقة مار مخايل لتوفير غطاء مسيحي لسلاح «حزب الله» الذي ليس سوى سلاح إيراني.
المحزن في الأمر أنّ عون، الذي شكا قبل غيره من وجود «دويلة حزب الله»، سارع إلى الرضوخ لهذه الدويلة بمجرد تعهد من نصرالله بالوصول إلى موقع رئيس الجمهوريّة.
كان مستعداً لكلّ شيء من أجل الإقامة في قصر بعبدا الذي طرد منه في أكتوبر من العام 1990 عندما كان رئيساً لحكومة موقتة لا مهمة لها سوى انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة خلفاً للرئيس أمين الجميّل الذي انتهت ولايته في 23 سبتمبر 1988.
بعيداً عن اللفّ والدوران، لن يرضى «حزب الله» برئيس للجمهوريّة غير الرئيس الذي يرغب في فرضه على اللبنانيين. ليس لديه اسم واضح حتّى الآن، باستثناء أنّه يؤيد الوزير السابق سليمان فرنجيّة.
يعرف الحزب أنّه لا يستطيع إيصال فرنجيّة إلى قصر بعبدا.
هل يفاوض على اسم آخر أم يمارس اللعبة ذاتها التي مارسها عندما تبنّى ترشيح عون خلفاً للرئيس ميشال سليمان؟ وقتذاك، أغلق الحزب مجلس النواب سنتين وخمسة أشهر قبل أن يقتنع رئيس حزب «القوات اللبنانيّة» الدكتور سمير جعجع بانتخاب عون رئيساً للجمهوريّة.
مهّد ذلك لانضمام الرئيس سعد الحريري إلى مؤيدي تسوية رئاسية لم تكن في الحقيقة سوى سابقة لبنانيّة. يعني وجود مثل هذه السابقة أنّ «حزب الله»، أي إيران، من يقرّر من هو رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة.
اتفق الزعماء المسيحيون في ما بينهم أم لم يتفقوا. لم يعد ذلك مهمّاً.
المهمّ ماذا تريد إيران في الوقت الحاضر. في المدى الطويل، ثمّة سؤال سيطرح نفسه بقوّة هل يمكن أن يحرّر لبنان نفسه ويخرج من السجن الإيراني. كلّ ما عدا ذلك تفاصيل في وقت لا وجود لاهتمام عربي أو أميركي أو أوروبي بلبنان الذي لن يبق من مؤسساته سوى مؤسسة الجيش.
في ضوء تثبيت سعر جديد للدولار الأميركي، وهو سعر يدلّ على مدى تدهور قيمة العملة الوطنيّة، دخل لبنان الفصل الأخير من عملية انهيار كامل على كلّ صعيد.
أعطى «حزب الله» بغطاء من بشّار الأسد، إشارة الانطلاق لهذه العمليّة قبل 18 سنة. كان ذلك عندما عندما تخلّص من رفيق الحريري، بكل ما يمثله، في الرابع عشر من فبراير 2005.
منذ لحظة اغتيال رفيق الحريري ورفاقه، توقفت عملية البناء التي أطلقها الرجل بعدما تولى موقع رئيس مجلس الوزراء في العام 1992. في لحظة الاغتيال بدأ الانهيار الذي نشهد اليوم فصله الأخير.
لم يعد ممكنا إنقاذ ما يمكن إنقاذه من لبنان... حتّى لو تمكن قائد الجيش جوزيف عون، وهو رجل نظيف الكفّ، من الوصول إلى موقع رئيس الجمهوريّة.
بات مصير لبنان مرتبطاً بالحدث الإقليمي.
لن تتخلى إيران عن الرهينة اللبنانيّة ما دام النظام فيها حيّا يرزق. إلى إشعار آخر، في غياب معجزة، هذا هو الأمل الوحيد والأخير للبنان.