جودة الحياة

أن تحترق وظيفياً

تصغير
تكبير

في كل أسبوع، نتفق أنا وصديقتي على الخروج لقضاء وقت ممتع معاً، وكالمعتاد ما نكاد أن نتفق حتى تعتذر بسبب ظروف عملها المفاجئة حتى في أيام العطل الأسبوعية والإجازات الرسمية.

نتشابه معاً بأننا نحب أن نعمل ونجتهد في عملنا ونؤديه بكل أمانة وعلى أكمل وجه من دون تقصير، ولكننا نختلف بأنني أقدس عطلة نهاية الأسبوع والإجازات للترفيه عن نفسي وقضاء الأوقات الجميلة مع الأهل والأصدقاء، وهي النقيض مني تماماً، تقدس العمل بشكل لا يطاق حتى إنها تعمل في أيام العطل والإجازات، فأهملت نفسها وحياتها وأصبحت في عزلة اجتماعية وأسيرة العمل.

أخيراً اتفقنا والتقينا، بدت مرهقة، خائرة القوى والعزيمة، كنت أعلم أنها تعاني من بيئة عمل غير صحية، ومثقلة بالكثير من الطلبات التي تستنزف الطاقة والجهد.

كانت صديقتي تعطي كل وقتها للعمل من دون كلل وملل وشكوى لأنها تحب عملها وتجد ذاتها فيه.

ولكن فجأة تبدل كل شيء مع تغير الإدارة بدأت المتاعب، فانهالت عليها تعليمات الرئيس الجديد وكثرت شكاوى العملاء، ومهما تعمل وتجتهد وتعطي من وقتها وحياتها لا تجد التقدير من الإدارة الجديدة بل على العكس تماماً ترى بأنها مقصرة في عملها.

وفي محاولة لتهدئتها وبث الأمل في قلبها وروحها من جديد لتقبل واقع ومتطلبات المرحلة، نصحت صديقتي بأخذ إجازة طويلة للاستجمام والراحة وأن تستعيد هواياتها في الرسم والتشكيل فقد كان واضحاً أنها تعاني من الاحتراق الوظيفي، وهو تمدد العمل في حياة الفرد وتربعه على قائمة أولويات حياته مع تراجع اهتماماته الأخرى، فهو يعرف العمل ولا شيء غيره فيصبح عبداً للوظيفة لا أكثر ولا أقل، بالإضافة أن خطورة الاحتراق الوظيفي تكمن في أنه يتحول مع الوقت إلى روتين قاتل يلقي بظلاله ويؤثر ليس على إنتاجية العمل بل يؤدي على المدى البعيد إلى تعطيل واحتراق عقول مبدعة وخلاقة.

الاحتراق الوظيفي كأي ظاهرة لا تنتج من فراغ فثمة أسباب عدة تكمن خلف تفشي هذه الظاهرة، كغياب التواصل الفعال والدعم من الرئيس في العمل، والمعاملة غير العادلة وحجب فرص الترقي والعلاوات عن الموظفين وتوزيعها بالواسطة والمحسوبية على المعارف والأصدقاء مما يخلق بيئة عمل تعج بالصراعات والتباغض والتنافر، إضافة إلى ذلك ينتج الاحتراق الوظيفي عن ضبابية الرؤية وعدم وضوح الدور الذي على الموظف القيام به داخل مؤسسة العمل.

فهو ينطوي على نوع من الإرهاق العقلي أو العاطفي أو الجسدي المصحوب عادة بحالة من التشاؤم واليأس بسبب الضغوط وغياب بيئة العمل الصحية.

ورغم شيوع الظاهرة على نطاق واسع في أوساط بعض الشركات الكبرى والدوائر الحكومية، إلا أن بيئة العمل العربية قلما تعترف بوجودها، وفي حين يحترق الموظف، ويظلم أفق حياته ويضطر لتقديم استقالته عن العمل، فإن ذلك لا يحرك ساكناً ولا يغير من واقع العمل.

في المقابل تجري الأبحاث للحد من هذه الظاهرة وتحجيم الأضرار الوخيمة الناتجة عنها عبر سيناريوهات عدة تتضمن التوصية بتقليل أيام العمل «والتي لست معهاً كثيراً»، وعدم تكليف الموظفين بأعمال خارج أوقات العمل الرسمية أو حتى التواصل معهم إلا للضرورة والضرورة القصوى فقط،وذلك من أجل أن يعود الموظف للعمل مليئاً بالنشاط والحيوية.

لكن دعوني أقول لكم إن العالم أكثر سعة ورحابة من محض وظيفة تعرضك للاحتراق والتلاشي.

وعطفاً على حالة صديقتي، فقد تعرفتُ على كثير من النماذج من الذين أعطوا جُل أوقاتهم للوظيفة فكان روتين حياتهم اليومي من العمل إلى البيت والعكس ولا شيء غير ذلك... لا هوايات نافعة يجري صقلها في أوقات الفراغ ولا وقت خاصاً للاستمتاع مع العائلة والأصدقاء، ولا تفكير في مشاريع وخيارات مستقبلية أخرى بعيداً عن محدودية الوظيفة وضيق أفقها.

يقيني أن التماهي مع الوظيفة حد الانصهار والاحتراق لهو ضرب من العبث وتبديد العُمر.

اعمل بجد واجتهاد وأمانة في أوقات العمل ولا تهمل عملك وأعطِ كل ما تستطيع من دون تقصير حتى نهاية ساعات العمل، ولكن لا تنسى نفسك وتمضية الأوقات الجميلة مع الأهل والأصدقاء... مارس هواياتك وأعطي نفسك وقتاً للراحة لكي لا تحترق وظيفياً واجتماعياً.

Twitter: t_almutairi

Instagram: t_almutairii

Email: talmutairi@hotmail.com

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي