في الوثائقي الرائع الذي بثّتْه قناة «العربية» بعنوان «القذافي الأيام الأخيرة»، مجموعةُ شهاداتٍ واقعية خصوصاً تلك التي أوْردها الحرسُ الشخصي للعقيد معمر القذافي وجلُّها يتعلّق بعملياتِ الهروب من منطقة الى أخرى إلى... النهاية.
المهمّ في الوثائقي التفسيرُ «الاستراتيجي» العظيم - على وزن النهر الصناعي العظيم - الذي قدّمه موسى إبراهيم الناطق باسم القذافي عام 2011 والذي تَعَوَّدَ الناس أن يروه يومياً في مؤتمره الصحافي خلال انتفاضةِ الليبيين.
وعلى عَكْسِ مسؤولي عهد القذافي الذين ما زالوا يَعتبرون ما جرى في ليبيا مؤامرةً دوليةً استفادتْ من احتجاجٍ شعبي ومن ضعف الأمن ومن أخطاء داخلية للنظام، ينفرد موسى إبراهيم بتفسيرٍ خاص، لم يسبقه إليه أحد وقد يكون «الأخطر»، للتغيير في ليبيا قوامه التالي حرفياً: «لم نتمكّن من تقوية ثقافة التحرُّر والاستقلالية الوطنية والسيادة رغم أنها كانت هي الثقافة الرسمية السائدة عندنا وكان يمثّلها العقيد معمر القذافي بشكلٍ له كاريزما خاصة، لكنها لم تَنزل إلى بعض قطاعات الشعب الذي كان يتعلّق بالنموذج الغربي أو يتعلّق بنموذج الهيْمنة الرأسمالي دون وعي حقيقي بآثار هذه الهيمنة على الوطن».
ولترجمة ذلك وتبسيطه للقارئ، يَعتبر موسى إبراهيم الذي تمكّن من الهرب خارج ليبيا، أن الشعب الليبي افتقدَ لثقافة التحرّر ولم يقدّر معنى الاستقلالية الوطنية وفرّط بالسيادة.
وفي مقابل هذا الشعب، هناك العقيد القذافي الذي كان يمثّل كل هذه الثقافة أي السيادة والاستقلال والتحرّر، ليس بالشكل العادي أو الطبيعي، إنما من خلال كاريزما خاصة.
والمشكلةُ بالنسبة إلى السيد موسى إبراهيم أن هذه الثقافة المُتَوَّجة بتلك الكاريزما لم تنزل إلى بعض قطاعات الشعب الذي كان مرتبطاً بنموذج الهيمنة الرأسمالي من دون وعي ما أدى إلى هذه الهيمنة لاحقاً على ليبيا.
لم يختلفْ النظامُ الليبي السابق عن أقرانه في المنطقة. فمَن يستمع بدقةٍ الى المحيطين بالديكتاتوريين، يَستنتج دائماً أن رأسَ الدولة شخصٌ عظيمٌ، تاريخي، متطور، مُنْفَتِح، وطني، متحرّر سيادي، وأنه القائد الضرورة لأن غالبية الشعب ما زالت تعاني نقصاً في الثقافة والتحضُّر.
لكن موسى إبراهيم بَزَّ أقرانَه المتحدثين باسم السلطة في تفسيره العظيم حول تَعَلُّق الشعب الليبي بالهيمنة الرأسمالية. أي أن ليبيا لم تشهد إعدام القذافي لرفاقه الذين انقلبوا معه، ولم يبدأ عهدَ المشانق في الملاعب لجامعيين وناشطين اعتبرهم مرتدّين عن ثورته الثقافية، ولم يتدخّل تمويلاً ومباشرةً بالجنود والمرتزقة في مناطق كثيرة في العالم، ولم يختفِ من عنده علماء مثل السيد موسى الصدر، ولم يأمر بالزحف على السفارات والمعارضين في الخارج لاغتيالهم، ولم يفجّر طائرة لوكربي التي اعترف لاحقاً بمسؤوليته ودَفَعَ تعويضات لأهالي ضحاياها، ولم يدعم الجيشَ الجمهوري الايرلندي، ولم يقتل المئات في منطقة بني الوليد اثر محاولة ضباط الانقلاب عليه، ولم يرتكب مجزرة سجن بو سليم التي كان تَحَرُّك أهالي الضحايا فيه شرارةَ الاحتجاج في بنغازي التي تحوّلت إلى ثورةٍ عمّت كل ليبيا.
لم يَسمع المحتجّون الليبيون في بداية تَحَرُّكهم أي شيءٍ له علاقة بتعلُّقهم بالهيمنة الرأسمالية، وجلُّهم تحت خط الفقر في واحدةٍ مما يفترض أنها أغنى دول العالم. يكفي ما قاله المفتّشون الذين زاروا ليبيا لتدمير أسلحة الدمار الشامل بعد سقوط صدام حسين من أنهم لم يجدوا أسلحةَ دمارٍ شامل بل وجدوا دماراً شاملاً.
سمع المحتجّون من القذافي أنهم جرذان، وكلاب ضالة، وتهديداً بملاحقتهم وإبادتهم زنقة زنقة وبيتاً بيتاً وإحراق بنغازي. سألهم: مَن أنتم؟ وهو القائد المُنْتَشي بكتابه وأفكاره واحتكار أموال الدولة... ثم اكتشفَ أن غالبيةَ الشعب متعلقةٌ بـ «الهيمنة الرأسمالية»، والدليل أن شهادات الوثائقي في «العربية» وعلى لسان أوْفى الأوفياء للقذافي اعترفت بأنه لم يكن آمِناً حتى في سرت مسقط رأسه، المفروض أن تُقاتِلَ لأشهر وسنوات بِحُكْم القبيلة وتاريخ دعْمه لها وتحكيم أهلها بمفاصل الأمن وجعْلها العاصمة الواقعية بَدَل طرابلس.
بعد 42 عاماً من الحُكْم، يقرّ جماعة القذافي بأنهم فشلوا في إبعاد الشعب عن «الهيمنة الرأسمالية»، لكن في العالم العربي مَن يفشل لا يترك مكانَه لغيره، فإما القصر أو القبر. يقولون ذلك لشعبِ عمر المختار الذي كان رمزاً للتحرر العربي والعالمي وليس الليبي فحسب، فيما القذافي ورفاقه لم يولدوا بعد.
قضى القذافي قبل أن تنزل ثقافتَه إلى عامة الشعب. قضى مختبئاً قرب أنابيب تموجُ بالجرذان تاركاً كتاباً بلا دستور، ولجاناً بلا دولة، وجماهيرية بلا جماهير... وهو ما يفسّر واقعياً سبب التخبط الحالي في بناء وطن.