... «ما في شي بإيران»

تصغير
تكبير

بعد أشهر من قيام الثورة السورية، وفي ليلةِ التدمير الممنهَج لأحياء مدينة حمص الذي كانت وكالاتٌ إعلامية ووسائلُ تَواصُلٍ تَنْقله مباشرةً على الهواء حيث استغاث ناشطون وناشدوا العالمَ وَقْفَ الإبادة الجَماعية، فوجئ الجميعُ بمَن فيهم أنصار حزب الله، بالسيد حسن نصرالله يَخْرُجُ على الهواء ليقول: «ما في شي بحمص».

وبعدما انحسرتْ العملياتُ العسكريةُ واستوتْ المباني على الأرض ودُفِنَ مَن دُفِنَ تحتها، برَّر جماعةُ الحزب إنكارَ «سيدهم» للتدمير والإبادة بقولهم مازحين في لقاءاتٍ خاصة: «كان يقصد أنكم لم تشاهدوا شيئاً بعد، ولذلك ففعلاً ما بقى في شي بحمص».

بين «ما في شي بحمص» ومقصدها «لم تشاهدوا شيئاً بعد»، تدور الأحداثُ في إيران بلا توقُّفٍ منذ أكثر من شهرين غداة قتْل الفتاة مهسا أميني تعذيباً تحت التحقيق.

ويبدو أن نظامَ الممانعةِ يَعتمد هذه الاستراتيجية مدخلاً لبثّ الرعب وتثبيتاً على أن قصةَ الإنسان وحقوقه وآدميته ليست بتلك الأهمية التي تستحقّ بناءَ تَعاطُفٍ ودعْم دولييْن، وأن وحدَه الواهم مَن يعتقد أن أساطيلَ السفن الحربية ستتزاحم إن حصلتْ إبادة.

فإعلام الجمهورية الإسلامية منقسمٌ بين «ما في شي بإيران» وبين تصريحاتِ قادة الحرس الثوري بأنهم سيستأصلون ما يعتبرونه فوضى وشغباً «في حال قرّر قائد الأمة الولي الفقيه ذلك».

أما معيار توصيف العبارة من نفي الإعلام الى تأكيد «الحرس»، فهو الفيديوات التي تُظْهِرُ احتجاجاتِ الناس وإحراقهم لتماثيل قاسم سليماني وغيره والكتابة على الجدران والمواجهات مع الأمن وإطلاق الرصاص الحي.

ولجماعة الممانعة أزمة مع موضوع التصوير، فالقتلُ ليس مشكلةً إنما النقلُ، ولذلك مثلاً تتصاعد نبرةُ مسؤولين إيرانيين بتهديد قناة «العربية» لأنها تنقل ما يجري في الشارع موثَّقاً بالصورة والصوت.

يذكّرنا ذلك بما نَقَلَهُ وفدٌ من أهالي جوبر السورية التقى بشار الأسد بعد تَكاثُر التظاهراتِ عقب الثورة وإطلاق الجيش النار على المتظاهرين، من أنه قال لهم: «أنا لا أزعل ممّن يتظاهر بل أزعل ممّن يُصَوِّر»... وكان ذلك آخِر ما كتبه أعضاء الوفد في وسائل التواصل.

إذاً، القصةُ ذاتها. تَظاهروا وموتوا جَماعياً برصاصِ الجيش، إنما من العار عليكم أن تعطوا صورةً عاطلة عن نظامكم بأنه قاتِل.

ويومَها وثّق الناطقُ السابق باسم الخارجية السورية جهاد المقدسي (غادر سورية لاحقاً) هذه الفرضية بقوله في أحد مؤتمراته الصحافية إن السلطةَ ضَبَطَتْ الكثير من أجهزة الهواتف المحمولة الحديثة مع كاميراتٍ متطوّرة كان البعض يهرّبها عبر الحدود.

في المنطق الإيراني، كل شيءٍ مُلْتَبِسٌ سوى جزئية واحدة، وهي أن العالم لن يتحرّك حتى ولو حصلتْ عملياتُ إبادةٍ كبيرة، وأن السفنَ الحربية لن تنتصر لحقوق الإنسان الإيراني.

ويبدو أن «ما في شي بإيران» انطلقتْ من طهران واحتلّت عواصمَ العالم التي إن حُشر مسؤولٌ فيها، قال إن بلادَه لن تتردّد في اتخاذِ ما يلزم لمساعدة الإيرانيين على ممارسة حقوقهم الإنسانية والسياسية.

والمفارقةُ المؤلمةُ أن الأمرَ لم يعد يقتصر على السياسيين، فـ «ما في شي بإيران» هو المانشيت الأبرز في غالبية وسائل الإعلام الغربية، بمعنى أننا بالكاد نجد خبراً عن انتفاضةِ الإيرانيين في الصفحات الأولى مع صُوَرٍ لِما يجري.

ويبدو أن العزفَ لم يعد منفرداً بين السياسيين والإعلاميين الغربيين، بل هو جَماعي بحجةِ أن هناك محادثاتٍ تجري مع السلطات الإيرانية واتفاقاتٍ يُعمل عليها... الملف النووي يغطي ما قَبْله ولا يترك مجالاً لِما بَعْده.

شاهَدَ الإيرانيون الرئيسَ السابق باراك أوباما يضع يدَه على أُذُنِهِ اليمنى قائلاً إنه يسمع صوتَ الشارع العربي، ثم شاهدوه يضع يدَه على فمه عندما انتفضَ السوريون، ثم شاهدوه يغمض عينيْه ويصمّ أذنيْه ويقفل فمَه عندما قُمعت تحرّكاتُهم مرةً تلو أخرى، وقرأوا في «عقيدة أوباما» ما يمكن أن يُفَسَّرَ إعجاباً بإيران أكثر من مختلف أنظمة المنطقة انطلاقاً من حصول انتخاباتٍ دورية فيها... شاهَدوا وسمعوا وقرأوا وأدركوا أن ليس لهم من حليف سوى سواعدهم.

«ما في شي بإيران» مع اتساعِ الاحتجاجات، تشي بأن المخطّطَ المقبلَ قد يكون، كما حمص، قَتْلاً للبشر وتدميراً للحجَر، يعقبهما تهديدٌ أميركي ودولي بأن إيران قد تدفع ثمنَ فعْلتها... إن كرّرتْها «مرات عدة» في السنوات المقبلة.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي