في حفل تكريم مستشارها ماجد جمال الدين بحضور محلي وخليجي وعربي
«الغرفة»... تودّع جزءاً من تاريخها
في لفتة وفاء اختلطت فيها الدموع بفيض الذكريات، تجمّع رجالات غرفة تجارة وصناعة الكويت، إلى جانب عدد من رؤساء وممثلي الغرف العربية واتحاداتها، أول من أمس، لتوديع جزء من تاريخ «الغرفة»، حيث كان الاحتفاء بمستشارها و«مفتيها» ماجد جمال الدين، بعد مسيرة عطاء تجاوزت نصف قرن قدّم خلالها سلامة النهج على نهج السلامة.
طوال العقود الخمسة الماضية أخلص «بوبدر» للكويت جهداً وفكراً ولأهلها محبة واحتراماً ولمبادئه قلماً وموقفاً، فيما يعتبر أن الإصلاح عملية متطورة ومستمرة تتعثر خطاها كلما تراكمت مستحقاتها، وتزداد تكلفتها كلما ترددت قراراتها.
لم يعرف ماجد جمال الدين كللاً أو مللاً في خدمة قلعة اقتصاد الكويت العالية، والاقتصاد الوطني عموماً، حيث كان أيقونة «الغرفة»، والناصح الأمين لمؤسسيها وكبار الشخصيات الذين تعاقبوا على رئاستها خلال فترة عمله فيها، ما كان له بالغ الأثر في رفع اسم الكويت و«الغرفة».
وشهد حفل التكريم الذي أقامته «الغرفة» لمستشارها الذي يجمع بين شجاعة الرأي وحكمة المنطق، حضور لفيف من الشخصيات الاقتصادية في الكويت والخليج وعلى مستوى الوطن العربي، تقدمهم الرئيس السابق لمجلس إدارة «الغرفة»، علي الغانم، والرئيس الحالي، محمد الصقر، فيما تضمّن الحضور الحكومي وزير التجارة وزير الدولة لشؤون الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات مازن الناهض.
علي الغانم: العقل الراجح واللسان الناصح والمشير الصالح
أفاد الرئيس السابق لغرفة تجارة وصناعة الكويت، علي الغانم، بأن المستشار ماجد جمال الدين كان على مدى 55 عاماً العقل الراجح، واللسان الناصح، والمشير الصالح لـ«الغرفة»، مؤكداً أنه سيُغادر مكانه فيها كشخص، لكن طيفه سيبقى ماثلاً في نواحيها، تقع عليه العين، في كل موضع له فيه أثر، أو ينطق فيه عنه خبر.
وقال الغانم في كلمته خلال حفل التكريم، مخاطباً المحتفى به «ترجلتُ – منذ بعض الوقت ـ عن منصب رئاسة غرفة تجارة وصناعة الكويت، كما ترجلتَ أنت عن منصب المستشار لها، لكنني بقيت - كما ستبقى أنت ـ على ارتباط بها، لذلك تجدني اليوم أمامك، في حفل تكريمها لك، فكأني لم أبرح مكاني، وكأنك لاتزال نصب عيني»، مضيفاً «أيها العزيز عشقي وعشقك، ولسان حالي وحالك معها، هو قول القائل في مثلها: (قد تخللتِ موضعَ الروح مني ولذا سمي الخليل خليلاً)، إذ سيخلو فيها مكانك، ولكن ستبقى فيها مكانتك، فما تركته من آثار في مسيرتها، هو وشم ثابت في سريرتها، لا تمحوه الأيام، ولا يبلى على مرّ الأعوام، وسيكون لسان حالك لمن ينظر بعدك إليها، أو يقف عليها: (تلك آثارُنا تدل علينا فانظروا بعدنا إلى الآثارِ)».
وأشار إلى أن «الغرفة» قلعة اقتصاد الكويت العالية، التي انتصبت فيها القامات الاقتصادية العملاقة، والخبرات العريقة الخلّاقة، التي نتذكرها اليوم بكثير من الإجلال والتوقير، والإكبار والتقدير، لافتاً إلى أن جمال الدين بأدائه الرائع فيها كان واحداً من أكابر مبدعيها، ولئن آثر اليوم أن يترجّل عن صهوة حصانه، ورفيع مكانه، فقد ترك فيها من نتاج جهده، مَنْ يرفع الراية من بعده، ومَنْ يكون فيها خير خلف لخير سلف، فكأنه بما ترك من الخبرات التي هيأها، والكفاءات التي أهلها، لم يبرح مكانه، ولم تفقد «الغرفة» إمكانه.
وقال الغانم لجمال الدين «أيها الغالي الثمين، والقوي الأمين، خالص الشكر وبالغ الثناء، على كل ما قدمته لبلدك وأهلك من البذل والعطاء، وتقبل الله منك صالح عملك، وحقق لك رائد أملك، وحقق فيك قوله في كتابه المبين: (إن الله لا يضيع أجر المحسنين)».
وأفاد الغانم بأنه وجميع زملائه في مجلس إدارة «الغرفة»، ينظرون إلى ترجل جمال الدين عن صهوتها، على أنه بداية لمرحلة جديدة من العطاء الموفور، والأداء المبرور، إذ أثبتت السنوات الماضية، والأيام الخالية، أنك لم تكن ابناً باراً لـ«الغرفة» وحدها، بل للكويت كلها.
محمد الصقر: ذهب عتيق وفرع شامخ من سنديانة الكبار
من جانبه، وصف رئيس غرفة تجارة وصناعة الكويت، محمد الصقر، المستشار ماجد جمال الدين بـ«الذهب العتيق» كونه شخصاً مؤمناً بدور التجارة في الاقتصاد الوطني، والمدافع عن التكامل العربي، والحريص الدائم على أواصر الشراكة الخليجية، والمرافق للرعيل الأصيل ورافع الراية لكل جيل.
وقال الصقر في كلمة له بالمناسبة: «ليست هذه أولى وقفاتي على المنابر، لكنها بالتأكيد من الأقرب إلى وجداني والأصعب على كياني، كون الذي نحتفي به هو الذي کرمنا بوجوده بيننا طوال نصف قرن من الزمن، والمتفضل بالوقوف إلى جانبنا، أخاً كبيراً، مستشاراً ناصحاً، وسنداً نطمئن باللجوء لحكمته، فهو المحب بلا انتظار لمقابل، والوفي من غير أن يجامل، والمقبل على العمل بإصرار لا يكل، والحريص على العطاء بإقدام لا يمل، والمرحّب بالبسمة الهادئة، والمعطاء بالكلمة الصادقة، عن قناعة وعلم، وبصلابة وعزم».
وأشار الصقر إلى إيمان جمال الدين بدور التجارة في الاقتصاد الوطني، ودفاعه عن التكامل العربي، وحرصه الدائم على أواصر الشراكة الخليجية، واصفاً إياه بالفرع الشامخ من سنديانة الكبار، والثمر الناضج من قطاف النخيل.
وأوضح أن «جمال الدين دخل (الغرفة) شاباً يافعاً تبدو عليه أمارات النجابة، وتشعّ من جبينه سمات النباهة، وسرعان ما انطلق في أرجاء (الغرفة) يجوب إداراتها، ويتعرف على أركانها، ويتحرى مهامها، ويتمعن بأهدافها، واضعاً في صلب تركيزه دورها الحيوي، ورؤيتها الاقتصادية، ورسالتها النبيلة، فبدأ العمل بشعلة من النشاط، وبصوابية في الأهداف، وبرقي في التعامل، وبتميز في العطاء والأداء»، مؤكداً أن المحتفى به كان حاضراً في المواقف الوطنية، ورائداً في الميادين الاقتصادية، سمته الجرأة التي لا تخدش، وترسانته الكلمة التي لا تخطئ، وشغله الشاغل مساندة الكبار في جعل «الغرفة» صرحاً رائداً على المستويات المحلية والخليجية والعربية كافة.
وحول علاقته بجمال الدين، قال الصقر «عرفته منذ أن كنت يافعاً، فكان الأخ العطوف والحكيم الناصح، ورافقته في كل مراحل العمر فكان الوفي الأمين، والمحب المخلص والملبي حتى قبل الطلب. وتشرفت بزمالته في (الغرفة) لأجد في خزائنه كل ما يحتاجه المرء من خبايا التاريخ وواقعية الحاضر وطموحات المستقبل، فكان ولايزال العضد والسند، يؤازرني في عبء المسؤولية، ويشاركني واجب الحفاظ على تميز (الغرفة) وتعزيز دورها».
وخاطب الصقر المحتفى به قائلاً «مع ارتباك اللسان في التعبير عن خلجات الوجدان، أستعير منك بعضاً مما قلته في مَنْ تحب، مخاطباً إياك بما عبّرت للعم عبدالعزيز حمد الصقر - رحمه الله - مكرراً أنه (كم نحن مدينون لك، وكم أنت غني عن وفائنا بهذا الدين... وأملنا أن تعذر تقصيرنا، وعذرنا أننا أسرى نقيضين: فيض المحبة والاحترام والامتنان، وعجز المكانة والملاءة والبيان).
ماجد جمال الدين: آثرت طوال رحلتي سلامة النهج على نهج السلامة
من ناحيته، استذكر المستشار ماجد جمال الدين كوكبة من الشخصيات التي زاملها في «الغرفة»، وصفها بأنها كتيبة الطليعة من بناة النهضة في الكويت بعد أن بدأت «الغرفة» عملها مع تباشير الاستقلال في «فيء آل الصباح ورئاستهم الفخرية»، مؤكداً أنه قضى عمره في مؤسسة قامت بتلك الرجالات وعليها.
وقال إنه طوال رحلته في «الغرفة» آثر سلامة النهج على نهج السلامة، موضحاً أنه رغم مشقة هذا الاختيار فإنه لم يُعان يوماً من قلة الزاد ولا وحشة الطريق.
وأكد جمال الدين أن «(الغرفة) نهضت بواجبها المهني باقتدار، حيث التزمت منذ أيامها الأولى بالحرية الاقتصادية، والمنافسة المتكافئة، وبالعدالة الاجتماعية بين المواطنين، والعدالة المستقبلية بين الأجيال. وتبنت الإصلاح باعتباره عملية متطورة ومستمرة، تتعثر خطاها كلما تراكمت مستحقاتها، وتزداد تكلفتها كلما ترددت قراراتها. وإلى جانب هذا كله وبالتوازي معه، كانت ا(لغرفة) ولاتزال صوت الكويت وقطاعها الخاص في المحافل والمنابر الاقتصادية والإقليمية والدولية؛ فهي في طليعة المتحمسين لاتحاد الغرف العربية ورسالته، وصاحبة الدعوة لقيام اتحاد غرف دول مجلس التعاون الخليجي».
واستعاد جمال الدين ذكريات مغادرته دمشق بعد نكبة عام 1967 وتوجهه إلى الكويت ليعمل في واحدة من أعرق مؤسسات مجتمعها المدني، لافتاً إلى أنه وفي يوم تكريمه قد «أسمعني العم أبومرزوق، والرئيس أبوعبدالله، والصديق أبوعبدالرحمن، أسراراً عني، ما وقرت يوماً أذني، فتركوني بين صحو ووسن، أذكر ما عهدت فيهم من إخاء وعطاء، فأصدق في قولهم. ثم أذكر كم أخطأت وكم قصرت، فأرتاب فيما سمعت»، مضيفاً «فيا لخجلي منهم، كيف أستطيع أن أوفيهم حقهم؟ وأن أعبّر عن عرفاني لهم؟».
وتابع: «إذا كان من العبث أن أحاول في كلمة قصيرة اعتصار تجربة تمتد على مساحة 50 عاماً وتزيد، فإن من المستحيل أن أقف على هذا المنبر بالذات، في هذه المناسبة بالذات، دون أن تلوح على الفكر والخاطر أطياف شخصيات كثيرة، ما ذكرتها يوماً إلا شعرت أني في حضرتها، فأوشك أن أقف على قدمي، أعدّل ربطة عنقي، أغلق أزرار سترتي، احتراماً لها، وإقراراً بفضلها، ووفاء لذكراها».
واستذكر جمال الدين رجالات «الغرفة» فقال «من بينهم الأعمام الأجلاء، رحمهم الله، عبدالعزيز الصقر؛ ذو القامة التي لم تنحن إلا في صلاتها، والحاج يوسف الفليج؛ فصيح الصمت الذي يخفت في حضرة وقاره كل صوت، ومحمد عبدالمحسن الخرافي؛ طيب السريرة والمسيرة الذي يمشي بتواضع الكبار وئيداً واثقاً، وحمود الزيد الخالد؛ صاحب الذكاء الوقاد والبداهة الشرود عمقاً وحكمة، ومحمد النصف؛ والتكامل المعجز بين واقعية الحياة ومثالية الأخلاق، ومحمد البحر؛ الذي كان في قومه سرياً، وفي غوثه سخياً، وعبدالرزاق الخالد؛ المثقف الذي حمل الأصالة دون جمود، وعمل للحداثة دون جموح، والتزم صراحة كحد السيف في الحالتين، وسعد الناهض؛ النبيل الذي جمع بين هدوء الطبع ودماثته، وبين شجاعة الرأي وحكمته، ويعقوب الحمد؛ صاحب الحدس الصائب والموقف الذي لا يوارب، ويوسف إبراهيم الغانم؛ الذي تمسك بالكرامة بكلتا يديه، فلم يبق لديه ما يمسك به المناصب».
وأضاف «هؤلاء ورفاقهم كانوا ضمن كتيبة الطليعة من بناة النهضة في بلادي. فكيف لا أصاب بزهو يلامس الغرور أو يكاد، وقد قضيت العمر في مؤسسة قام بها وقام عليها أمثال هؤلاء».
وقال إن «(الغرفة) لم تقصر يوماً بواجبها الوطني كمؤسسة طليعية، شهدت ولادة الدستور فساهمت باستلهام رؤاه ومنطلقاته، وواكبت قيام مجلس الأمة، فاحتفت برفع قواعده ودعم تطلعاته»، مضيفاً «يشهد الله أني قد أخلصت للكويت جهداً وفكراً، وأخلصت لأهلها محبة واحتراماً، وأخلصت لمبادئها قلماً وموقفاً. وأشهد أمام الله، بالمقابل، أن الكويت قد أكرمتني، بعطاء الأمراء وبوفاء النبلاء، فإذاً هي - أيضاً - وطني، وإذاً أنا أشرف بأن أكون من مواطنيها».
رباح الرباح: يُقدّم رأيه الاقتصادي شعراً دون أن يُثقل قلمه قيد
أما المدير العام لـ«الغرفة»، رباح الرباح، فقال إن ماجد جمال الدين كان موضـع الثقة والمستشار المخلص الأمين الذي اتكأ عليـه مجلس إدارة الغرفة من المؤسسين والمخضرمين، فبنوا جميعاً مؤسسة متفردة أصيلة مهنية وصادقة، على الرغم من تتابع المحن والخطوب التي عصفت بالكويت وبقطاع أعمالها.
وأضاف «من أجل البصمات التي لن تنسى لمستشارنا، أنه كان يقدم رأيه الاقتصادي بلغة الشعر، إن صح التعبير، ورغم الاختلاف بين جمودية المفاهيم الاقتصادية ورقة اللغة العربية، تجد قلم المستشار لا يثقله قيد ولا يرهقه غل، يمضي في رأيه معبّراً عنه بلغة تمتاز بالجزالة لا تشعر معها بأي ثقل، بل ويجعلك تتساءل أهذا اقتصادي قصد میدان أهل الفصاحة واللغة يبارزهم بغزارة لغته، أم هذا أديب عربي نحا نحو الاقتصاديين يقارعهم بالحجج والبراهين الاقتصادية التي ملك زمامها، أم هو الاثنان معاً جُمعا في شخصية فريدة تتسم إلى ما سبق بنفاذ البصيرة وذكاء القلب والقدرة على استقصاء الأشياء والنفوذ إلى أعماقها».
وتابع «لعلي أكون قد أوجزت لسان حال جميع العاملين بالجهاز التنفيذي للغرفة، حين أقول: «لقد أتعبت من بعدك يا أبا بدر»... واضطررت من جدّ في أثرك إلى مشقة أي مشقة وعناء أي عناء.
وقال«لقد كرست نفسك ابناً لهذا المكان، الذي أصبح، من غير شك، يشغل حيزاً كبيراً في ذاكرتك ووجدانك. وإن كان هذا التكريم ليعفيك من قيود العمل الرسمية وطقوسه، فإنه لا يعفيك في الوقت ذاته من أن تكون مرجعنا الذي قد نركن إليه فنزيد علمنا خبرة ونثقل خبرتنا عمقاً، لذا لا تظن أن احتفالنا بك يعني غروب أنوار فكرك ورشاقة قلمك، فغروب الشمس لم يأت إبانها».