جولة لـ «الراي» في أزقة المدينة وأزماتها
طرابلس «بنت التاريخ».. تتخبّط بدمها
- موتٌ في البحر وقتْلٌ في البرّ وآمال تتبخّر في الجو
- مدينة العِلم والعلماء وزهر الليمون لم يبْقَ من مآثرها إلا الفقر
- مقتل الشبان الأربعة في «مجزرة» أيْقظ المخاوف الأمنية
- رئيس بلدية طرابلس يخشى تَزايُد الحوادث الفردية نتيجة الوضع الاقتصادي
تكاد مدينة طرابلس، عاصمة شمال لبنان، أن تتحوّل «ملعبَ فوضى»، هي التي غالباً ما تكون ساحةً لـ «حَدَث يومي» على صلةٍ بمَظاهر تَفَكُّك الدولة وسيادةِ الجوع والانزلاقِ المتمادي نحو الواقع الجهنّمي الذي يعيشه اللبنانيون عموماً.
موتٌ في البحر، قتْلٌ على البر، أو آمال تتبخّر في الجوّ.. تلك هي حال المدينة التي لُقِّبتْ يوماً بـ «الفيحاء» والتي فاخرتْ طويلاً بأنها مدينة العِلم والعلماء وزهر الليمون، ولم يَبْقَ من مآثرها اليوم سوى الفقر والضياع وإنسداد الأفق.
قبل أيام، في مساء مُظْلِمٍ وظالم (ليل الجمعة)، قُتل 4 أشخاص في «ميني مجزرة» خلال عملية سطو على أحد محال بيع الهواتف. وقبل أشهر قليلة إبتلع بحر طرابلس نحو 30 شخصاً من الهاربين من «جهنّم اللبنانية» إلى واحدٍ من أصقاع الأرض بعدما غرق مركب المهاجرين غير الشرعيين.
لم تكن طرابلس يوماً شبيهةً بالمدن اللبنانية الأخرى. فالمدينة التي تتسم بالمفارقات العديدة عانت الكثير من الويلات، تلك المفارقات التي تجعل من فقرائها يموتون غرقاً في قوارب الموت بحثاً عن لقمة العيش، فيما يتصدّر أغنياؤها قوائم الأثرياء العرب.
ولطرابلس الكثير من الألقاب، وآخِرها «عروس الثورة» (إنتفاضة 17 اكتوبر 2019)، وهي لطالما إنطبعتْ بأحداث مرّت عليها وبلْورت حالتها الإجتماعية والإقتصادية والسياسية وشكّلت مرآةً للواقع اللبناني بكلّيته أو إحدى أسرع الطرق لتوجيه «الرسائل الساخنة» بـ«صندوق بريد» الدم والنار والبؤس.
هذه الـ «طرابلس» بدت في الأيام الأخيرة وكأنها «تتخبط بدمها». فرغم أنها تعوّدت القلاقل الأمنية لأسباب بعضها مفهوم وبعضها الآخر مجهول – معلوم، فإن مقتل الشباب الأربعة في عملية السطو المسلح شكل تطوراً مأسوياً وأدخل المدينة في دائرة التوتر العالي.
رئيس بلدية طرابلس أحمد قمر الدين قال لـ «الراي»: «إن المدينة ما زالت تحافظ على نسبة كبيرة من الإنضباط الأمني رغم بروز بعض الأحداث الفردية». وأضاف: «هذه الأحداث تعود بشكل أساسي للوضع الإقتصادي الذي يُعاني منه سكان المدينة»، معرباً عن تخوفه من تكرارها، وطالباً من الجميع تحمّل مسؤوليته.
زحمةُ سياراتٍ وناس وباعة وأسئلة تستوطن «الفيحاء»، مدينة الألف حكاية وحكاية مع الزمن يوم كان جميلاً ويوم صار مضرجاً بدمها. ولعل السؤال الأخطر هو: هل ثمة مؤامرة على العاصمة الثانية للبنان؟
رئيس تحرير دورية «الدوائر» الزميل جوزف وهبة لم يرَ مؤامرة لكنه رَسَمَ بكلماتٍ كأنها رثاء أحوال المدينة وأهوالها. وقال: «نعدّ قتلانا. عادة يوميّة بتنا نمارس طقوسها ببلاهة وإستسلام غير مسبوقيْن. الموتُ صورةٌ على الفايسبوك ولايكات سود وعبارة»لروحه السلام..«. البارحة كان المشهد فجّاً. فائضُ موتٍ مع أربعة قتلى دفعة واحدة، وفي واقعة واحدة. فقط اختُلِف على تحديد مسبّبات الحادثة، بين محاولة السطو وبين الإشكال الفردي بين فتية الحارات. ولكنّ السببَ لا يبدّل شيئاً في ألم المشهد: أولادٌ خسروا أباهم. أمٌّ فقدت إبنيها. زوجةٌ ودّعت رفيقَ دربها».
أضاف: «لا تذهبوا إلى المؤامرة، أو أنّ شيئاً يُحاك في ليلٍ دامس على أمن طرابلس. طرابلس ليست المدينة الوحيدة التي تعيش هذا الحزن المستدام. القتلُ بات أسلوبَ تَعامُلٍ على إمتداد الجغرافيا اللبنانية. إنّه النتيجة الشرعية لتفكّك السياسة وهزالة المسؤولين وفقدان رجال الدولة. بالأمن والعسكر والحواجز، على ضرورة هذه العوامل، لا تستقرّ الأحوال. نحن في طرابلس بحاجة لأكثر من ذلك.. مثلاً، تسعيرة المولدات الكهربائية هي الأغلى في لبنان.. علماً أنّ هناك «إصبعاً» لصاحب مولّد أو لعامل لديه (وهو بالضرورة شبّيح) في غالبية الفلتان الأمني، كما في حال مقتل سيّدة في شارع الثقافة، يوم الأحد الماضي».
ورأى أن «ما يجري في ليل طرابلس كلّ يوم ليس من صنع أيدي خفيّة. هو خليط من التراخي الأمني بسبب الواقع الإجتماعي المزري لعناصر المؤسسات الأمنية، مع شبكة مصالح باتت تربط بالتأكيد بين بعض قادة الأجهزة الأمنية وبين قبضايات الشوارع، أصحاب النفوذ والخوّات. غالبية هؤلاء معروفون ويمتّون بصلات وثيقة مع هذا الجهاز أو ذاك. يَشعرون بأنّهم محميّون، فيبيحون لأنفسهم ما يخرج عن السيطرة أحياناً، فيسقط الضحايا بلا حسيب ولا رقيب.. وبالطبع بلا مؤامرة!».
ووصف وهبة في حديث إلى «الراي» المرحلة التي تعيشها المدينة بأنها «مرحلة تَراجُع دائم على مختلف المستويات. فعلى الصعيد الثقافي تحوّلت من مدينة رائدة تسعى وراء التغيير والحداثة إلى طغيان ثقافة الترييف، أي أن عادات المدينة تتبدّل إلى عادات قرية من القرى النائية». وأضاف: «في السابق كانت هناك حالة ثقافية ناهضة في المدينة، أما اليوم فباتت الثقافة بمثابة ظِل للزعامات، وفَقَدْنا الأندية الثقافية المستقلّة التي تعبّر عن الرغبة بالتغيير وعن روح المدينة».
وأكد أن «جرّ الريف إلى المدينة بما يحمله مِن تراثٍ وقِيَم بات أمراً طاغياً على طرابلس، فلم تعد تُشبه أهلَها بل باتت تُشْبِه ريف عكار والمنية والضنية»، وقال: «كما أن شكل السلطات في المدينة تغيَّر، فسابقاً كان ثمة أحزاب يسارية وعائلات سياسية تُمْسِك بقرار المدينة السياسي وتوجهاتها، أما اليوم فهناك أصحاب المولدات الخاصة وشباب الأحياء وأصحاب الدراجات النارية وما يُمَثِّلونه من سلوكيات وفوضى، وهؤلاء باتوا متحكّمين بالمدينة وسط غيابٍ لمرجعية سياسية لها».
الوظيفة الاقتصادية
ويشرح وهبة الدورَ الإقتصادي الذي تلعبه المدينة، فيرى أن «التجارةَ شكّلت مَصْدراً أساسياً لأهالي طرابلس بحيث كانت صِلة وصلٍ بين العاصمة بيروت والداخل السوري. وفي فترة إنقطاع هذه العلاقة تحوّلت وظيفة المدينة إلى سوق للأقضية المحيطة من البترون وبشري وزغرتا والمنية والضنية». وأضاف: «أما اليوم، فقد دخل عنصر الإغتراب في شكل كبير إلى المدينة، بحيث يقدّم المغتربون مساعدات لأهاليهم وذويهم، وهذا أنشأ نوعاً من التوازن».
ويلفت إلى أنه «في فترة معينة تمكّن المال السياسي من تعبئة الفراغ الإقتصادي الذي تُعانيه المدنية، إلا أن هذا المال تراجع كثيراً في الأعوام الأخيرة بعد تَراجُع أقطاب المدينة عن تَصَدُّر المَشْهَد السياسي»، مضيفاً: «أكثرية أهل المدينة باتوا فقراء مع تَراجُع وضعهم المادي والإقتصادي، فالفئة المتوسطة من موظفين في القطاعين العام والخاص كانوا يقومون بتحريك العجلة الإقتصادية، إلا أن إرتفاع سعر صرف الدولار جعل منهم غير قادرين على لعب هذا الدور».
طرابلس «أمّ الفقير»
أمام بلدية طرابلس الواقعة في قلب المدينة، يجلس محمد عبد اللطيف منتظراً السيارات التي تركن في الموقف الذي استثمره من البلدية. وما أن تسأله عن أحوال المدينة حتى يؤكد أن «طرابلس تُعاني الفقر منذ زمن بعيد، ولكن في ظل اشتداد الأزمة الاقتصادية بات أهالي المدينة معدَمين نهائياً». وأضاف: «لذا، فإن جميع الطرابلسيين بات طموحهم الوحيد الهجرة، وهكذا يمكن ملاحظة الإزدياد الكبير للهجرة غير الشرعية في الأعوام الأخيرة».
ويلفت عبد اللطيف الذي يفتتح موقفه من السابعة صباحاً حتّى الرابعة عصراً إلى أن «طرابلس كانت تُسمّى أم الفقير للدلالة على تدني الأسعار فيها نظراً لتراجُع القدرة الشرائية، كما أنها تتميّز بالألفة بين أهلها. أما اليوم فقد باتت هموم كل مواطن تجعله غير قادر على مساعدة الآخرين».
كما يُشير إلى أن الموقف الذي يستثمره من البلدية يجني له نحو 3 ملايين ليرة لبنانية شهرياً، ولكنه لم يعد يدفع أي مقابل للبلدية لقاء الإستثمار «إذ ان البلدية لم تعد تطالب بمستحقاتها خلال هذه الأزمة». وأضاف: «هذا المبلغ الزهيد لا يكفيني، فأقوم باستخدام سيارتي الخاصة كتاكسي رغم أنها لا تحمل رخصة رسمية. ففي طرابلس من الشائع إستخدام السيارات الخصوصية كسيارات أجرة، إذ أن البدل المادي الذي نتقاضاه من الركّاب زهيد جداً مقارنةً بالمناطق الأخرى».
طرابلس.. مدينة الآثار والتاريخ
وتشتهر المدينة أيضاً بغناها التاريخي، حيث تنتشر فيها مئات الآثار التي تعود إلى حقبات تاريخية قديمة، وتتوزع بين قلاع عسكرية ومساجد وكنائس وحمامات ومدارس وأسواق وغيرها.
ومن أشهر هذه الآثار التاريخية الجامع المنصوري الكبير ومسجد البهاء وجامع العطار وجامع البرطاسي وجامع الأويسي، ومدرسة المشهد والمدرسة الشمسية والمدرسة الناصرية والمدرسة العجمية والمدرسة النووية.
بالإضافة إلى كل ذلك، يقع في داخل الأسواق القديمة للمدينة، وتحديداً بالقرب من المدخل الشمالي القديم على امتداد سوق النحاسين ما يُعرف بـ «حمّام عز الدين»، وهو يعتبر من أقدم وأكبر الحمامات المملوكية ويشكّل نموذجاً للعمارة الإسلامية.
الهروب طمَعاً بحياة أفضل
وأمام هذا الحمام، يجلس محمد (اسم مستعار) الذي سرعان ما يحاول محادثتك عن أهمية الآثار في المدينة، وينتقل به الحديث للوضع الاقتصادي الذي يعانيه المواطنون مفاخراً بارسال ابنه إلى أوروبا عن طريق قوارب الموت «فهو هرب من جهنم هذا البلد».
واللافت أن هجرة إبنه جاءت قبل نحو ثلاثة أسابيع، أي بعد غرق أحد المراكب وفقدان 30 شخصاً كانوا على متنه، ولكن ألم تَخَفْ أن يكون مصيره نفس مصير هؤلاء؟ يُجيب محمد: «الأعمار بيد الله ولكن البقاء في هذا البلاد بات أمراً مستحيلاً بالنسبة لجيل الشباب، فأنا لدي ثلاثة شبان، الأول يعمل في موقف للسيارات، والآخَر هاجر إلى أوروبا، أما الثالث فهو عاطل عن العمل، وبالتالي أي مستقبل سينتظرهم في لبنان!».
غياب الاهتمام الرسمي
بالإضافة إلى ما تقدم، تُعاني طرابلس غياب الإهتمام الرسمي بها رغم وصول العديد من أبنائها إلى منصب رئاسة الوزراء، فضلاً عن توليهم مراكز وزارية وأمنية وقضائية رفعية.
وفي السياق، قالت إيناس مرعب التي تعمل في أحد المحلات في سوق طرابلس القديم إنها «تأمل أن تلقى المدينة الإهتمام الرسمي اذ أنها تملك جميع المقومات التي تؤهلها للعب دور أكبر على مختلف الصعد». وأضافت: «رغم أن الإعلام في مرحلة معينة ألبسها ثوباً غير ثوبها لناحية تشبيهها بقندهار إلا أن هذه الصورة النمطية تراجعت كثيراً، وقد لعبت وسائل التواصل الإجتماعي دوراً كبيراً في هذا الصدد».
وتابعت مرعب: «طرابلس تتميز بالتراث، من الخانات والقلعة وغيرها من المواقع الأثرية، إلا أنها تفتقر لإهتمام المؤسسات الرسمية، بحيث يقتصر الإهتمام بها على المبادرات الفردية إذ يقوم التجار على سبيل المثال بترميم محالهم في السوق القديمة».
خطة أمنية لطرابلس
أعلن وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال بسام مولوي عن خطة أمنية لطرابلس سيبدأ تنفيذها.
وقال مولوي بعد إجتماع مجلس الأمن الداخلي المركزي: «نتابع ما يحصل في طرابلس بكلّ جدّية لنحقق في خلفية الجريمة (السطو المسلّح ومصرع 4 أشخاص) وارتدادتها، وهدف اجتماعنا وضع خطة أمنيّة مستدامة لطرابلس»، وأضاف: «الآن باتت الخطة مكتوبة، ولا يمكننا الإفصاح عنها لسلامة تنفيذها، وسنزيد الإجراءات العسكرية والأمنية في طرابلس».
وشدّد مولوي على أنّ «أمن المواطنين مسؤوليتنا وسنطبّق الخطة الأمنية بالشمال بالتعاون مع الأجهزة في المنطقة وبإشرافي»، وأكّد أنّ «الأمن لا يكون بالتراضي والاتفاق بل بالفرض، والقانون يجيز لنا ذلك فالنيابة العامة التمييزة ستسهّل عملنا وستضفي الصفة الشرعية على عملنا». وتابع: «لن نعود إلى الوراء في طرابلس».
وأشار إلى أنّ «الأجهزة تلاحق كلّ منطقة ضعيفة أمنيّاً في طرابلس، ونتمنى أن تساعدنا الأجهزة الأمنية الأخرى في الملاحقات، فلا يمكننا ترك عصابات السرقة والأشرار، وسنحدّ من تفلّت السلاح والخطة الأمنية ستُطَبَّق».