محمد علي شمس الدين.. غياب الكبير
.. ها هو الشعر ينكّس قوافيه، وبحورُه تخسر من روافدها، أما موسيقاه فتعزف اللحن الحزين، والأسود يكلل صوره البهية.
هكذا كان حال الشِعر مع صبيحة أحدٍ لبناني أصاب شمسَها الكسوفُ مع موت «قمر» جديد من زمن لبنان الجميل إسمه محمد علي شمس الدين.
الشاعر الذي ولد (1942) على عتبة إستقلال لبنان وسكنتْه القوافي في عمر مبكر وعرفه العالم العربي مُجَدِّداً توفي عن 80 عاماً وحشد من الدواوين والمؤلفات.
ابنته الشاعرة رباب رثته في قصيدة من وجعٍ ووداع قالت فيها:
لم تعلّمني كيف تكفَّن القصيدة وقد غسلناها بدمْع المحاجر
ولم تعلّمني كيف يُدفن الشِعر
ولم تخبرني ان للشعر مقابر
حفرتُ كل تراب بيروت يا أبي فما وسعتْك بيروت يا أيها الشاعر
فأين أواري جسدك المقدس
وكيف ترثيك في الموتي المنابر.
من الجنوب وإلى الجنوب عاد محمد علي شمس الدين الذي حلق بعيداً وطويلاً في عوالم الشعر والتاريخ والفلسفة. صاحب الوجه الصبوح، الهادئ في ثورته الدائمة، المسكون بتراث جبل عامل والساكن في التحولات التي أجاد حياكتها كواحد من أبرز شعراء الحداثة.
.. «قرباني لجمالك لا تغضب فأنا لست قوياً حتى تنهرني بالموت، يكفي ان ترسل في طلبي نسمة صيف فأوافيك».
هكذا «وفى» محمد علي شمس الدين، الذي صارع حتى النفَس الأخير المرض والأسئلة وأسرار الحياة والمعاني، فهوت شجرةٌ من الشعر العربي، أغصانُها مديدة أما جذورها فعصية وتضرب بعيداً في الأرض والذاكرة.
ثمة مَن قال انه برحيل الشاعر شمس الدين في 11 سبتمبر سقوط لواحد من أبراج الثقافة العربية، وأن ذهابه إلى الصمت الأبدي يشبه ضجيج إنفجار مرفأ بيروت، العاصمة التي فتّحت قوافي الفتى الآتي من جنوب الجنوب، من بيت ياحون وعربصاليم إلى مقاهيها والأرصفة والأندية والبحر والحرية.
لم يتغرب محمد علي شمس الدين يوماً عن أرض الجنوب وظل الحنين دوماً الى القرية الواقعة قرب الحدود، بين بلدة تبنين ومدينة بنت جبيل الجنوبية، يرافقه.
بيروت التي قصدها في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي بحكم الضرورة لم تمح ذاك الحنين الحزين الى بيت الطفولة رغم ما نسجت فيه من دهشة ساهمت في بنائه الفكري.
في «ثانوية فرن الشباك»، إحدى ضواحي بيروت درس وتفوق وكان الطريق الذي يمشيه يومياً على قدميه مرتعاً لحفظ القصائد وأبيات شعر فرنسية ما جعله يتفوق في دراسته و ينجح في البريفيه الفرنسية وحيداً في صفه.
في معرض توصيفه لتلك الأيام، يروي الصحافي كامل جابر أنه قال مرّة: «أنا «ميم»، الرجل المشّاء. أضع يديَّ في جيوبي عندما يهبط الليل على بيروت وأمشي. شوارع المدينة طويلة ومتعرّجة مثل حكاية بلا بداية ولا نهاية. وأنا فيها متسكّع المسافات التي لا تنتهي".
مسيرته الدراسية كانت الإنذار المسبق بنبوغه الفكري. ففي زمن الخيبات العربية والصراعات الفكرية حصد إجازة في الحقوق، وأخرى في الأدب العربي وثالثة في التاريخ نال لاحقاً فيها شهادة دكتوراه دولة من الجامعة اللبنانية عام 1997. ودرّس تاريخ الفنّ في «معهد التعليم العالي».
عشقه للشعر رافق مسيرته الدراسية لكنه سرعان ما أدرك أن الشعر ليس وظيفة ولا يطعم خبزاً فعمل مفتشاً في الضمان الاجتماعي اللبناني ليغادره مديراً عام 2006. تلك المسيرة المهنيّة الغنيّة جعلته على احتكاك مع الناس وأغنت تجربته الداخلية فكان يعيش وكأنه في عالمين: واحد مفتوح على الخارج والناس، وآخر يحفر عميقاً في طيات الذات لتنشأ من اتحاد العالميْن شتلة شعرية أينعت و اثمرت على مر السنين.
كل عامين تقريباً كان محمد علي شمس الدين يصدر ديواناً أو كتاباً نثرياً أو أشعاراً وقصصاً للصغار.
عنه يروي الكاتب كامل جابر وصفه لمرحلة البدايات قائلاً «كنت أكتب قصائد وأتلفها أو أخفيها في مكان ما، إذ كنت رهين النوعية منذ الصغر، وقلقاً جداً وشكّاكاً. وأنا في الرابعة عشرة كتبت أوّل نصوصي الشعرية... لكنني لم أسمح لأي قصيدة بأن تبصر نور النشر إلا حين اعتقدت أنها باتت تستطيع مقاومة الزمن فلا يطويها اليوم التالي».
لم يطو الزمن قصائده، ودواوينه ترسخت في الوجدان الشعري اللبناني و العربي وصار «ميم» من فرسان القصيدة يمتطيها ثائراً مقاوماً حيناً وحزيناً موجوعاً أحياناً، الى أن سقط عن صهوة قصيدته بعد أن تغلب الموت على عنفوان الكلمة.
وزير الثقافة في حكومة تصريف الاعمال اللبنانية القاضي محمد وسام المرتضى نعاه ببيان جاء فيه:
«الغيوم التي في الضواحي» كانت تهرِّبُ قصائدَك على «رياحٍ حجرية» إلى حيثُ «حلقاتُ العزلةِ» و«منازلُ النَّرْدِ»، ليبتني بها «النازلون على الريح» «غرباءَ في مكانِهم» «ممالكَ عالية».
نعم، شعرُكَ المتوَّجُ على «الشمس المرة»، «يناديكَ يا ملكي وحبيبي»: لماذا تركتَ «اليأسَ من الوردة» «يحرثُ في آبار» الحبرِ، ولا يدعُ لنا من الأبجديةِ إلا أن نكتب رثاءَك بكلماتِك؟
سينحني قليلًا جبل عامل من ثقلِ دمعةٍ في «كتاب الطواف»، وستبهتُ القوافي وتزفُّ حزنَها إلى الحداثة الشعرية، وستسكتُ عن الغناءِ الطيور التي أنت أميرالُها، لأنَّ رحيلَ شاعرٍ على هذا البهاء، يأخذُ الشعر إلى المعنى الأجلِّ الذي هو الصمت بخشوع.رحمك الله! "
عناوين دواوينه التي ارتصفت اليوم في رثائه، ارتصفت في مسيرة العمر لتشكل حجارة البناء الشعري الشامخ الذي صاغه فكرة فكرة ليصل به حدود الشمس. لم يحرقه لهيب الشمس على غرار شعراء تملكهم جنون العظمة أو حتى جنون الواقع العاري المكشوف تحت ضوء الشمس الساطع، بل زاد تجربته وهجاً وتألقاً وجعله حالة خاصة في الشعر العربي تدخل الى وجدان الواقع تعريه وتسمو به نحو الأعلى.
عناوين حملت مسيرة عمر من الشعر:
قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا، غيم لأحلام الملك المخلوع، أناديك يا ملكي وحبيبي، الشوكة البنفسجية، طيور إلى الشمس المرّة، أما آن للرقص أن ينتهي، أميرال الطيور، يحرث في آبار، منازل النرد، ممالك عالية، رياح حجرية، كتاب الطواف، حلقات العزلة، اليأس من الوردة، غرباء في مكانهم، الغيوم التي في الضواحي، النازلون على الريح و شيرازيات.
طليعي في الحداثة
منذ العام 1973 وحتى لحظة وفاته ظل شمس الدين في طليعة شعراء الحداثة في العالم العربي، هذا العالم الذي وإن عشق الشعر يوماً وغفا على دغدغة كلماته وصوره، أيقظه ضجيج مآسيه وصمّ فكره و آذانه عن رنين قوافي القصائد.
شارك محمد علي شمس الدين في العديد من المهرجانات الشعرية في البلاد العربية وحاز في العام 2011 على جائزة العويس الشعرية. ترجمت أشعاره إلى أكثر من لغة منها الإسبانية والفرنسية والإنجليزية.
الى جانب الشعر كتب مقالات نقدية وأدبية عن الشعر والأدب والفكر في المجلات والصحف اللبنانية والعربية، وكان عضو الهيئة الإدارية في اتحاد الكتّاب اللبنانيين.
بشعره رثوه
في رحيله لم يجدوا في كلماتهم ما يصيب القلب ويرسم الحزن أبياتاً أكثر من شعره. بشعره رثوه في تغريداتهم هو الذي كان دوماً على تماس مع فكرة الرحيل وكأنه كتب رثاءه عشرات المرات قبل أن يموت. أو كأن الموت، كل موت، كان يرصف له الطريق نحو العالم الآخر.
الإعلامية سمر ابو خليل نعته بكلماته في تغريدة:
إنهم هكذا رحلوا ثم عادوا على متن قوس النخيل ليس للخبز لكنما للرحيل.. كأن المنافي إقامتهم في الزمان البخيل"
الإعلامي و الكاتب بيار ابي صعب استعاد كلمات له قائلاً:
«قال لي صاحبي: أنت لا تعرف الأرض والآخرين؟ قلت: أمّي نهتني عن الموت إلا على صدرها قال: خذ رقم قبري... وغابْ ولمّا التقينا بكينا معاً فوق صدر التراب»...
أمل ناضرين رثته برثاء كان قد سبقها إليه قائلاً:
«أنا الخاسر الأبدي فلماذا إذن أشتري بالمواعيد هذي الحياة؟ قلت تأتين في الثامنة وها عقربان يدوران حولي ولا يقفان عقربان يدوران في معصمي يلدغان دمي ولا يقفان كأن لم تكن ثامنة في الزمان.»
أما بتول شومر فمن شعره جاء رثاؤها: «أنا في الظل وهذا الظل يمحوني فاغفو، غير أن الشمس لما كشفتني قتلتني.»
الكثير الكثير سيقال في محمد علي شمس الدين ولكن ما من رثاء أعظم من كلمات رؤيوية رأى فيها رهبة الأحاسيس ومعاني الرحيل وسمو الموت قبل أن يطأ أرضه.
«قصيدة الموت ليست مثل الموت. الشعر هو الكيان الإبداعي الجميل العظيم المفارق للواقع». لكن في رحيله اتحد الموت مع القصيدة ليصبحا كياناً أسمى من الواقع سيعيش طويلاً في وجدان كل من عرف محمد علي شمس الدين شاعراً و... إنساناً.