مَن يراقب باهتمامٍ سلوكيات ومواقف المعارضة السورية بمختلف فصائلها، وسلوكيات الفصائل التي تشكّل عَصَبَ النظام في العراق راهناً وكانت معارضة قبل سقوط صدام حسين، يكتشف أهمّ أسلحة الدمار الشامل لحزب البعث الذي كان حاكماً في العراق وما زال حاكماً في سورية... تكبيلُ المواطن إنسانياً وحَجْبُ الحياة الطبيعية عنه بما تقتضيه أولاً المشاركةُ في السلطة والثروة عبر أُطرٍ سياسية واقتصادية واجتماعية محمية بقوةِ القانون ومتّقدة بتقدُّم الحريات العامة.
كانت الهوّةُ شاسعةً بين الشعارات التي أَطْلَقَها البعث على كل الأصعدة العقائدية والفكرية والاشتراكية والسياسية، وبين احتكار السلطة والثروة.
والمفارقةُ التي اكتشفها البعثيون أنفسهم لاحقاً أنهم هم أيضاً كانوا واجهةً لنظامٍ عائلي بوليسي أمني عمل فعلياً على حصْر المنافع بيديْه، وأعطى غلاةَ المُوالين الفتاتَ، وتَعامَلَ مع الغالبيات الساحقة هنا وهناك على قاعدة «الله لا يردّهم» إن لم يلتفّوا حول «القائد» ويصفّقوا له ويتظاهروا من أجله لأنه «فوق المساءلة» ويتماهى مع التاريخ لا مع حفنةٍ من الناس. كانت الطبيعةُ «السّمحة» للنظاميْن تكمن في درجاتِ التعذيب فقط، ومَن يخرج معطوباً مِن المَقابر المسمّاة سجوناً يلتزم الصمتَ مكسورا حتى ولو لم يغيّر آراءه.
هذه الهوّةُ يحاول البعض التخفيفَ منها بوصْفها «ازدواجية» شخصية للنظام بين ما يطرحه وما يمارسه، وهي في الحقيقة أكبر عمليةِ تَكاذُبٍ في التاريخ ترتقي إلى حد الجريمة التي من عناصرها هنا أن النظامَ صار «انغماسياً» في كل مناحي الحياة الإنسانية، فمَن لا يُوالي ولا يَكتب تقاريرَ بزملائه ولديه آراء مُغايِرة لن يتوظّف أو يترقّى أو يُطْعِم أبناءه ولو كان مِن أهمّ الكفاءات.
وعندما صُفِعَ النظامان بالثورة التكنولوجية وانفتاح الناس على الحقائق والمعلومات واقتراب العالم منهم، حَصَرَ البعثان تجارةَ التقنيات بالمجموعات المحيطة بـ «القائد»، وأَطْلَقَ المستفيدون لاعقي الأحذية - وغيرها - حملةَ العلاقات العامة للعالم بأن «يخفّ» عن النظاميْن لأنهما أرقى مِن شعبيْهما ولأن رحيلَهما سيفتح البابَ أمام مرحلة تَطَرُّفٍ همجية تحرق الأخضرَ واليابس.
بمعنى آخَر، كان على العالم أن يَبقى قريباً من النظاميْن ولو شاهَدَ القرى تتقلّص والمقابر تتسع واشتمّ رائحةَ آلاف الجثث المطمورة في أماكن لا تَخطر على بال... وهكذا عاصَرَ العراقيون والسوريون أكبر عملية ابتزازٍ في التاريخ.
لكن الموضوعيةَ تقتضي أيضاً الإشارة إلى أن بعض سلوكيات المعارضة السورية والفصائل العراقية المُشارِكة في السلطة حالياً تُعْطي بعثيْ العراق وسورية أوراقاً ثبوتيةً للدلالة على صحة منطقٍ بُني على أسسٍ من إجرام، وخصوصاً لجهة ضياعِ هوية المرحلة، سواء كان اسمُها بناء الدولة في العراق أو تغيير النظام في سورية.
لو كان الإرثُ السياسي موجوداً بين الناس ولم يخنقْه النظام لَما استماتَ مثلاً معارضون سوريون في حرْق أنفسهم من أجل تركيا وهم يعرفون أنها ليست جمعيةً خيرية، ولَما أقدم بعض هؤلاء لاحقاً على حرْق عَلَم تركيا وشتْم رئيسِها وشعبِها وهم يعرفون حجمَ اللجوء السوري هناك وحجمَ الخدمات التي قدّمتْها تركيا وحجمَ العداء العنصري من الأتراك تجاه السوريين. ارفُضْ كما تشاء، وقُلْ كلّ ما تريد، واستخدِم القنواتِ اللازمة لإيصال صوتك، ودَعْ الإنسانَ السوري ومصلحتَه نصبَ عينيْك في أي تَحَرُّكٍ أو سلوكٍ، واحسبْ معها استفادة النظام السوري من هذا التحرك أو ذاك.
والإرثُ السياسي الحضاري أيضاً اختفى من خلال تَشَظّي فصائل المعارضة وليس تَعَدُّدها فحسب، ومن خلال التقاتل في ما بينها، ومن خلال القبول بأن يكونوا وقوداً لخلافاتِ مرجعياتٍ تدعمهم، ومن خلال إضعاف الإطار الجامع لحساب جيوشِ الطوائف، ومن خلال الخطاب المذهبي الذي كان يُطْرِبُ آذانَ النظام ويَنْتَشي به.
أما في العراق، فحدِّث بلا حَرَج. والمكتوبُ يُقرأ من عنوانه. عنوانُه الأخير تحديد المصير في الشوارع، وعنوانُه الدائم سيادة الدويلات على الدولة.
بعيداً من التكاذُب والنفاق والعاطفة، هناك لومٌ كبيرٌ على النخَب السياسية التي طَرَحَتْ نفسَها بديلاً عن أنظمةٍ مستبدّة ديكتاتورية، رغم تَفَهُّم اللعبة الجهنّمية التي لعبتْها هذه الأنظمة بخلْق واقعٍ إرهابي جهّزتْه في مختبراتها. وغيابُ الاحترافِ السياسي لا يمكن تبريرُه فقط بالوقوف عند «الحكاية وأصْلها»، أي استخدام هذه الأنظمة أسلحة دمارٍ شامل إنسانية لقتْل فطرةِ الشراكة الآدمية ما أدى الى اعتزال الغالبية قبل أن تَدْخُلَ حتى إلى ملاعب السياسة.
... ومع ذلك، كانت تجاربُ السنوات العشر الماضية وأهوالها كفيلةً ليس بترسيخِ خبراتٍ فحسب بل بتصديرها أيضاً، وهو ما يُضاعِفُ مسؤولياتِ مَن يطرح نفسَه البديلَ سورياً وعراقياً.