باحثون بلجيكيون يستكشفون إمكانية تفعيلها وقتما نشاء

«لحظة التجَلّي»... كيف تومِض في ذهنك؟

No Image
تصغير
تكبير

من شبه المؤكد أنك مررت في حياتك بمواقف حاولت خلالها جاهداً التوصل إلى حل لمشكلة أو معضلة ما دون جدوى فتتوقف عن التفكير التحليلي فيها... ثم بينما أن تتريض أو تستحم يتوهج الحل في ذهنك فجأة وكأنما ظهر من العدم! مثل هذه اللحظة المفاجئة هي التي قد يصيح فيها المرء على غرار أرشميدس قائلاً: «وجدتها! وجدتها!»، ويطلق عليها علماء النفس اسم: «لحظة التجَلّي»، وهي لحظة لا يقتصر ظهورها على المواقف التي تواجهك فيها مشكلة ما، بل أيضاً عندما تلمع في ذهنك فكرة عبقرية فجأة، أو يظهر في ذهنك حل لأحجية كانت مستعصية عليك تماماً قبل ذلك، أو حتى حينما يخطر تفسير شديد الألمعية لظاهرة عويصة.

وقد حدد العلماء أنماطاً مميزة من النشاط الذهني تميّز لحظات التجَلّي هذه، غير أن الجدال لا يزال قائماً في شأن ما إذا كان التجَلّي يمثِّل ببساطة تلك الخطوة النهائية في عملية التفكير المتأنية بما يجعله أكثر الخطوات التي تجلب الرضا للنفس، أم أنه نمط منفصل كليّاً عن التفكير الذهني التحليلي.

في هذا الاتجاه، أجرى فريق من علماء النفس البلجيكيين دراسة جديدة أفرزت أدلة إضافية تثبت أن التجَلّي الذهني يستعين بآليات لاواعية تختلف عن آليات التفكير الذهني التحليلي الذي يسير وفق خطوات منظمة. كما أثبتت نتائج الدراسة أنه حتى عندما تتزاحم الأفكار في عقل المرء ويشغله التفكير في العديد من المهام، فإن التجلي الذهني لديه يبقى قادراً على تفعيل حاسة الاستبصار التي تجلب الحلول العبقرية بلا مقدمات وبسرعة خاطفة.

نسلط في التالي مزيداً من الأضواء على تفاصيل تلك الدراسة التي نشرها موقع scientificamerican.com المتخصص في الشؤون العلمية والطبية: الدراسة أجريت تحت إشراف الدكتور هانز ستويك، الأستاذ بجامعتي بروكسل الحرة ولوفان الكاثوليكية في بلجيكا.

ولإجراء الدراسة - التي نشرت في مجلة «كوغنيشن» المتخصصة في علم الإدراك العصبي - أعد الباحثون 70 أحجية كلامية يمكن لطلاب جامعيين حلها استعانة بالتجَلّي أو من خلال استخدام التفكير الذهني التحليلي، وكانت كل أحجية تتألف من ثلاث كلمات، تظهر على شاشة الحاسوب أمام المشاركين.

وكانت المهمة المطلوبة منهم هي العثور على كلمة رابعة يمكن أن تتَّسق مع كل كلمة من الكلمات الثلاث مكونة عبارة.

فعلى سبيل المثال في حالة كان الاختبار سيجرى باللغة العربية، فإن الكلمات الثلاث التي يمكن عرضها على المشاركين بالاختبار هي «رضيع» و«أمر» و«طريق»، والإجابة ستكون «مهد»؛ وذلك أن «مهد الرضيع» و«مَهَّد للأمر» و«مَهَّد الطريق» جميعها عبارات مألوفة ومعروفة.

وبلغ عدد المتطوعين في الدراسة 105 طلاب جامعيين، حيث منحوا 25 ثانية لحل كل أحجية. وكان المشاركون يشيرون بعد كل مرة يكتبون فيها الحل إلى ما إذا كانوا قد توصلوا إليه بعد مرورهم بإحدى «لحظات التجَلّي» تلك، التي أخبروهم أنها تعني «إدراك الحل فجأة وبوضوح»، مثل مصباح يتوهج بغتة ليضيء غرفة معتمة.

وقُسِّم المشاركون إلى ثلاث مجموعات: فلم يعرَض على المجموعة الأولى إلا الأحاجي التي طلب منهم حلها، أما المجموعة الثانية، فكان يعرَض على أفرادها رقمان عشوائيان، يظهران بالتتابع على الشاشة، قبل ظهور الكلمات، وكان يطلب من المشاركين أن يحاولوا تذَكّر هذين الرقمين بعد الانتهاء من حل الأحجية، في حين جاءت المهمة المسندة إلى المجموعة الثالثة مشابهة للمجموعة الثانية، عدا أن المشاركين كان عليهم تذَكّر أربعة أرقام، بدلاً من رقمين.

وكان الغرض من جعل الأشخاص يتذكرون أرقاماً عشوائية هو شغل عقولهم بمهمة محددة، لا علاقة لها بالأحاجي التي يطلب منهم حلها.

وتوقع العلماء أن ذلك سيتداخل مع قدراتهم الواعية على حل المشكلات، وذلك لأن «مجموعة الموارد الإدراكية تلك التي يمكننا الاستفادة منها وتسخيرها لفعل أي شيء بصورة واعية، تتصف بكونها محدودة ومتناهية».

وعندما استعان المشاركون بالتفكير التحليلي، كانت نتيجة ذلك انخفاض عدد الأحاجي التي تمكنوا من حلها؛ إذ تمكنت المجموعة التي لم تظهر أمامها أي أرقام من حل 16 أحجية في المتوسط، بينما تمكن المشاركون الذين طلب منهم تذكّر رقمين من حل 12 أحجية، في مقابل ثمانية أحاجي عند المشاركين الذين طلب منهم تذكّر أربع كلمات.

ولوحظ أن اعتماد المشاركين في هذه الدراسة على التجَلّي في حل الأحاجي لم يترتب عليه ارتفاع معدل قدرتهم على حل الأحاجي بمهارة فحسب، بل لم يتأثر ذلك المعدل بمهمة تذكّر الأرقام؛ إذ تمكَّن هؤلاء المشاركون من إتمام ما بين 17 إلى 19 أحجية في المتوسط بدقة وكفاءة في جميع المجموعات الثلاث، وهو الأمر الذي علَّق عليه ستويك قائلاً: «سواء كانت مهمة تذكّر الأرقام لم تسند إليهم، أو أسنِد إليهم تذكّر عدد أقل أو أكثر من الكلمات، فإن عدد الأحاجي التي تمكنوا من حلها عن طريق التجَلّي بقي ثابتاً لم يتغير، ولعل هذه النتيجة هي أكثر ما أثار اهتمامنا».

والواقع أن جزءاً كبيراً من نشاط أدمغتنا يحدث بصورة لاواعية، ولهذا يبدو الأمر وكأن باستطاعتنا قيادة سياراتنا إلى العمل بصورة تلقائية دون إعمال للعقل في ذلك، ولهذا السبب أيضاً يرجع عجزنا عن إدراك أهوائنا وانحيازاتنا التي تؤثر في قراراتنا. لكن المتخصصين في علم النفس الإدراكي يختلفون في ما بينهم حول ما إذا كان التفكير الذهني يحدث في مستوى من الدماغ دون مستوى الإدراك، وفي ذلك يقول ستويك: «ثمة الكثير من الجدال الذي أثير حول هذا الأمر في الأبحاث السابقة».

ويرى ستويك أن لحظات التجَلّي تشهد تناوباً، وتبادلاً للأدوار بين العمليات الواعية واللاواعية. فعلى سبيل المثال، حينما يسعى مجموعة من الأشخاص لحل أحجية تتضمن كلمات (خل/ سلطعون/ صلصة)، تنشط مهارة الربط بين الكلمات المتعددة.

لكن وحدها الكلمات الأقوى ارتباطاً هي التي تدخل إلى العقول الواعية.

فإذا حدث وكان الجواب الصحيح يمثل ارتباطاً ضعيفاً، فقد يشعر الأشخاص بالعجز عن إيجاده.

لكن عقولهم - في مستوى أعمق ومجهول تماماً بالنسبة لهم - قد ترشدهم إلى ذاك الجواب، وتنقله إلى وعيهم.

وحول ذلك، قال البروفيسور مارك بيمان، المتخصص في علم الأعصاب الإدراكي بجامعة نورث ويسترن، وأحد الخبراء الرائدين في مجال التجَلّي: «إن محاولة إيجاد حل مبتكر لمعضلة ما تشبه إبصار نجم خافت في الليل، إذ سيكون عليك التفكير في الأمر بشكل غير مباشر، في إحدى زوايا عقلك».

لكن بيمان بيمان يتشكك في إمكانية تحقيق النتائج نفسها حالما يصبح العقل البشري مثقلاً ومرهقاً أكثر مما يستطيع، وعن ذلك، يقول: «بطبيعة الحال لا أريد أن أنصح الأشخاص الذين يرغبون في تعزيز قدراتهم الإبداعية في العمل بتحمّل المزيد من أعباء العمل بصورة تثقل كاهلهم».

وحالياً، يستعد فريق الباحثين تحت قيادة ستويك للشروع في إجراء تجارب تجَلّي جديدة، قوامها الأحاجي أيضاً.

ويعتزم الباحثون في هذه المرة إحداث «إرباك افتراضي» عن طريق تعطيل جزء من القشرة الجبهية الأمامية، وهي منطقة في الدماغ نستفيد منها في معالجة المعلومات واستخدامها بشكل واعٍ.

ومن المقرر استخدام طريقة غير تداخلية ولا تسبب أي ضرر تسمَّى «التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة»، لتنشيط خلايا الدماغ.

ومن المتوقع لنتائج تلك التجارب الرائدة المرتقبة أن تفتح آفاقاً غير مسبوقة إذا أثبتت أنه من الممكن تفعيل لحظات التجلي في أذهاننا وقتما نشاء.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي