من حق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التطلّع الى إعادة الحياة إلى الاتحاد السوفياتي. من حقه الطموح الى ذلك والى أبعد من ذلك، لو كان في الاتحاد السوفياتي ما يستحقّ الحياة، ولو كان لديه نموذج روسي صالح للتصدير يمكن أن تستفيد منه الدول الأخرى في العالم، خصوصاً تلك التي في محيط بلده أو بعيدة منها.
ليس الاعتراف الروسي بجمهوريتين مستقلتين في أو كرانيا هما لوغانسك ودونيتسك، سوى تأكيد لمدى جديّة بوتين في مجال السير في مشروعه الفاشل سلفاً. مَنْ لديه ادنى شكّ في ذلك، يستطيع سؤال نفسه، هل الدول التي كانت تحت الهيمنة السوفياتيّة في وضع أفضل الآن أم لا؟
معظم الدول التي كانت تحت الهيمنة السوفياتية، خصوصاً الدول الأوروبيّة في وضع افضل الآن. ألمانيا الشرقيّة لم تعد موجودة. ألمانيا توحّدت وهي تعيش في ظلّ واقع جديد أبعد ما يكون عن ذلك الذي يريده بوتين.
ليس ما يدعو الى إيراد أمثلة أخرى عن دول تحرّرت فعلاً من النظام الذي فرضه الاتحاد السوفياتي معتمداً نظريّة «السياسة المحدودة» التي تذرّع بها ليونيد بريجنيف لتبرير قمع الدبابات السوفياتية لـ«ربيع براغ» في العام 1968.
لا شكّ ان بوتين رجل حاذق ويعرف جيّداً استغلال الفرص بعد قراءة في العمق للتطورات الدوليّة. قرأ جيّدا التفكّك الأوروبي.
يكفي ما تُعاني منه فرنسا في ظلّ ايمانويل ماكرون الذي لم يصدّق ان بلده لم يعد يمتلك أيّ عظمة من أيّ نوع.
يتصرّف ماكرون، الذي يرجّح أن يعود رئيساً بعد نحو شهرين، كأنّ فرنسا مازالت في عزّها غير مدرك انّها فقدت حتّى أيّ تأثير أو نفوذ في بلد مثل لبنان!
يكفي أيضاً ما تُعاني منه بريطانيا، حيث رئيس للوزراء يدعى بوريس جونسون، لا يمت بأيّ صلة لشخصيات مثل ونستون تشرشل او مارغريت تاتشر. يكفي أن ألمانيا في مرحلة انتقاليّة في غياب انجيلا ميركل.
لكنّ القراءة الجيّدة لبوتين كانت تلك المتعلّقة بإدارة جو بايدن وشخص بايدن نفسه الذي يتبيّن انّه مستعد لتقديم كلّ التنازلات المطلوبة منه من أجل تفادي أي مواجهة من أيّ نوع مع أيّ طرف كان، بما في ذلك «الجمهوريّة الاسلاميّة» في إيران.
لن يتمكّن الغرب، بزعامة اميركا، من التصدي لبوتين في أوكرانيا. الرجل مندفع ويؤمن بانّ في استطاعته استعادة موقع الاتحاد السوفياتي في هذا العالم، غير مدرك أنّ ثمّة معطيات أساسيّة تغيّرت وأخرى لم تتغيّر. ما تغيّر هو ضعف اميركا وصعود الصين التي باتت قوّة اقتصادية يستحيل تجاهلها.
ما لم يتغيّر انّ روسيا لم تستطع في يوم من الايّام تحقيق أيّ نجاح خارج حدودها. اكثر من ذلك، لم يدرك بوتين انّ الصواريخ والسلاح النووي شيء، فيما تطوير الاقتصاد الروسي ورفع مستوى عيش المواطنين شيء آخر.
لا حاجة الى التذكير مرّة أخرى انّ حجم الاقتصاد الروسي اقلّ من حجم الاقتصاد الإيطالي، رغم كلّ الثروات الطبيعية التي تتمتع بها روسيا، من نفط وغاز!
يبقى الشرق الاوسط الدليل الأهمّ على عجز روسيا، وقبلها الاتحاد السوفياتي، عن تقديم أيّ شيء إيجابي للمنطقة. في الإمكان العودة، من أجل اثبات ذلك، إلى تجربة مصر وإلى حرب 1967.
لم يُقدم الاتحاد السوفياتي على أيّ خطوة من أجل تجنيب حلفائه العرب فخّ السقوط في تلك الحرب. فعل النظام البعثي السوري وقتذاك كلّ ما يستطيع لتوريط جمال عبدالناصر، في حرب خاسرة سلفاً.
لو بقي أنور السادات أسير سياسة الاتحاد السوفياتي، لما استعاد سيناء يوماً ولكان مصيرها كمصير الجولان الذي لم يسع حافظ الأسد او خليفته بشّار الى استعادته يوماً من إسرائيل.
لم يتغيّر شيء منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وتولّي بوتين الرئاسة. كلّ ما فعله الكرملين في السنوات القليلة الماضيّة هو المشاركة في الحرب التي يشنّها النظام الاقلّوي في سورية على شعبه.
كيف يمكن لبلد مثل روسيا تجاهل ان النظام السوري مرفوض من شعبه... ام أن لا همّ لديه بما سيحل بسورية ما دام صارت له قاعدة ثابتة على البحر المتوسّط. تفتتت سورية. اين مصلحة روسيا في تفتيت مثل هذا البلد؟
نجح الاتحاد السوفياتي في الماضي في وضع يده على اليمن الجنوبي الذي استقلّ في العام 1967. وجد لنفسه موطئ قدم في شبه الجزيرة العربيّة. استثمر في نظام لا مستقبل له.
كانت النتيجة القضاء على أيّ أمل في استعادة عدن مجدها في يوم من الايّام.
لم تكن الوحدة اليمنيّة التي قامت في العام 1990 سوى نتيجة سيطرة الاتحاد السوفياتي على اليمن الجنوبي واقامته نظاماً غير قابل للحياة فيه. أمّا ما حلّ باليمن وبالوحدة اليمنيّة بعد ذلك، فهو موضوع حديث آخر مرتبط بأحداث من نوع مختلف تماماً لا علاقة لروسيا به.
سيربح بوتين في أوكرانيا. سيربح بالنقاط او عبر حروب صغيرة في الداخل الأوكراني. يعود ذلك الى أنّ الأطراف التي تقف في وجهه ضعيفة، خصوصاً أنّها لا تستطيع مواجهته عسكرياً.
لكن السؤال الذي سيطرح نفسه عاجلاً أم آجلاً، ما الذي سيفعله الرئيس الروسي بانتصاره، او على الأصحّ، كيف سيستثمر في هذا الانتصار.
هل يكفي التوصّل إلى تسوية تحول دون ضم أوكرانيا الى حلف شمال الأطلسي (الناتو) كي تستعيد أوروبا هدوءها وتطمئن الإدارة الاميركيّة إلى أن عليها الاكتفاء بالانصراف إلى صفقة ما مع إيران تؤمن لها ما تحتاجه من مال لمتابعة مشروعها التوسّعي في المنطقة؟
يمكن للانتصار الأوكراني فتح شهيّة بوتين في اتجاهات أخرى داخل أوروبا وخارجها، ولكن هل لديه ما يصدّره لمحيطه القريب والبعيد غير القمع والانتصار على شعوب مثل الشعب السوري؟