رسالة إلى أحمد الناصر
أكتب إليكَ من قلبٍ ينبضُ بحبِّ الكويت وعِشْقِ لبنان، عن ورقةِ المَطالب التي حَمَلْتَها إلى أهل السلطة في بيروت مُتضمّنةً رؤيةً خليجيةً عربيةً عالميةً لإخراج هذا البلد العزيزِ على قلوبنا من أزمته.
وبما أنك تَصَدَّرْتَ المشهدَ وكانت الكويت واجهةَ المبادرة، فلا بدّ من كلامٍ صريحٍ لمقاربة الأمور كما هي.
يبدو أنكم، والكثيرون معكم، ابتعدتُم كثيراً عن لبنان وتريدون استخدامَ المفاتيح القديمة نفسها لفتْح أبواب جديدة.
لم يتغيّر الزمنُ فحسب في لبنان بل طبيعة الحياة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة أيضاً. وليس من باب المبالغة القول إن مُهمّة أميرنا الراحل الشيخ صباح الأحمد عندما كان وزيراً للخارجية وفي ظلّ أبشع أنواع الحروب والتقاتُل بين اللبنانيين، كانت أسهل من مُهمّتكم اليوم وأنتم تهبطون في مطارٍ مفتوحٍ وتتنقّلون في مدينةٍ لا مُقاتلينَ ظاهريين فيها ولا خطوط تماس. ذلك أن الحربَ سابقاً دمّرتْ الحجرَ بينما السلطةُ اللبنانيةُ اليوم دمّرتْ كل مُقوّمات الاقتصاد والمجتمع، وهدمتْ، حَرْفياً، حياةً عزيزةً كريمةً، وصار اللبنانيّ بلا تعليم ولا صحة ولا مال ولا حَوْلَ ولا قوّةَ له إلا بالله تعالى.
ولا يفوتكم أنّ هذه الطبقة السياسيّة نفسها المسؤولة منذ 30 عاماً عن هذا الانهيار، هي مَن تُحاوِرونها الآن وتقترحون مشاركتَها معكم في إيجاد حلولٍ ومَخارج، وكأن مَن قَتَلَ وسَرَقَ ونَهَبَ ومارَسَ كل أنواع الفساد وحَطَّمَ حياةَ الناس جديرٌ بأن يكون جزءاً من الحلّ.
مِن البُعد الداخلي إلى الخارجي. لا يفوتكم أيضاً أن لبنان انتهى كدولةٍ واستمرّ ورقةً مخطوفةً في ملفاتِ الآخَرين. وحين تريدون إنقاذَ الرهينة، فلا بد إمّا مُواجهة الخاطف، وإمّا الحوار معه والتوصل إلى تسوية. ولا نحن ولا أحد من حلفائنا القريبين والبعيدين مُستعدٌّ للمواجهة رغم بعض التصعيد الإعلامي، ولا أحد غير الأقوى إقليمياً والأقوى عالمياً يمكنه تفصيل حلوٍل، المصيبةُ فيهـا أنها ستكـــون مُشوّهةً وستُفْضي إلى تلزيم الأميركيّ للإقليميّ ملفَّ لبنان، بالباطن والظاهر، مقابل الابتزاز بورقةِ السلم الأهلي ولو صار 70 في المئة من اللبنانيين تحت خط الفقر.
لبنان الذي يحتاج إلى دعم أشقائه هو لبنان الرُقِيّ والتوافق والتعدّدية التي كانت مصدرَ غنى حضاري وتَمَيُّزٍ وتَعايُشٍ بين كل طوائفه.
لبنان الذي يحتاج إلى دَعْمٍ هو لبنان العُمْلة النادرة التي كانت جوهرةَ العرب والشرق الأوسط، جامعةَ العرب ومصيفَ العرب ومصرفَ العرب ومستشفى العرب وصحفَ العرب.
لبنان الاعتدال والوسطيّة، السبّاق إلى الحداثة وجسر الحوار بين الشرق والغرب ومَهْد التسامح وموْطن الحريات والديموقراطيّة والفنّ والثقافة.
لبنان المُؤسسات والتجربة الشهابيّة التي تَعَلَّمَ من تجربتها جميعُ العرب في بداية الستينيات. لبنان الرقابة والشفافية والمُحاسبة.
أنتم ذهبتُم يا معالي وزير الخارجية إلى لبنان آخَر للأسف الشديد، وتريدون ممّن فيه الخصام، وهو الخَصْمُ والحَكَمُ، أن يتوصّل معكم إلى اتفاق. وغنيٌّ عن القول إن كلَّ مَن في السلطة حالياً هو نقيضُ لبنان الذي تحدّثْنا عنه سابقاً، وأنتم تعرفون ذلك جيداً. فمَن في السلطة اليوم لم يضربوا المؤسسات فحسب، بل تجاوزوا ذلك إلى التباهي بالفساد. هل يُعقل أنك تُحاوِرُ مسؤولاً كبيراً ينتشي كل عام بصوره في مجلاتِ التغنّي بالمليارديرات وهو نافَسَ المواطنَ المسكين وسَحَبَ من دربه قروضاً سكنيةً بملايين الدولارات مدعومة من مصرف لبنان وبفوائد مُخفَّضة؟ أن تُحاوِرَ مسؤولاً آخَر يبشّر بأن الأوضاعَ ذاهبةٌ إلى جهنّم أو يدعو مَن لا يعجبه الوضع إلى الهجرة؟ أن تُحاوِرَ وزيراً شابتْ مرحلته كل أنواع الهدر، فردّ على التقارير بعبارة «ما خلّوني»؟ أن تُحاوِرَ مَن يرفع شعارَ الوطن والعروبة وعندما يلتقيك لا يُحدّثك إلا عن الطائفة ومظلوميّتها وهو الجامعُ لمقدّراتها المانعُ لكل صوتٍ مُخالِفٍ فيها؟ ولنكن صادقين أكثر، هل يمكن أن تُحاوِرَ القادةَ الذين يملكون مشروعاً يتجاوز لبنان إلى ما يسمّى محور المُمانعة؟ هل سمعتم ردَّ هؤلاء على الورقة الكويتية المرفوضة شكلاً ومضموناً بالنسبة إليهم؟ أنتم تتعاملون مع طبقةٍ سياسية غريبة عجيبة. تُلوّحون بمكافآتٍ ومساعداتٍ، وأنتم قبل غيركم تدركون من التقارير على مكتبكم كيف أن المساعدات كلّها تُسرق وكيف أن التنافسَ على حصصها هو المضمونُ الفعلي للتنافس السياسي الظاهر. أحد وزراء النفط السابقين سئل وهو يتلقّى كميةً من النفط هديّةً من العراق عن احتمال أن تُسرق كما حصل سابقاً، فردّ بكل هدوء أمام وسائل الإعلام: «لا، لأنّ هذه ستُخزَّن مباشرةً في خزانات الوزارة». لم يستنكر السؤالَ واعتبرَه طبيعيّاً... وجوابُه أيضاً كان مُؤشّراً على أن الفسادَ صار ظاهرةً طبيعيّة.
طبقةٌ يقول رموزُها للعرب إنهم ضدّ نهجِ الممانعة نهاراً، ويلتقون قادة هذا النهج ليلاً لتسهيل توزيرهم أو منْحهم منصباً... بل إن بعضهم يتلقّى دعماً مالياً ومعنوياً من إيران. طبقةٌ تهاجم سورية ومشاريعها في المنطقة ولبنان، ومسؤولوها يعاودون هوايةَ لقاءِ الضباط في فنادق الشام. طبقةٌ كَرَّسَها المشروعُ الخارجي للبقاء على صدور اللبنانيين بعد 30 سنة من ممارسةِ السلطة بانحرافٍ شارَكَ فيه الجميع، منهم مَن عمل على تكريس زعامته المالية، ومَن عمل على تكريس زعامته الطائفيّة. كان نجم البيوت السياسيّة العريقة ينطفئ، وصار صوتُ مَن يعمل لمصلحةِ وطنٍ ودولةٍ ومؤسساتٍ هو الأخفض للأسف الشديد. وأين أمراء الطوائف والفساد اليوم من الضمير الرئيس سليم الحص؟ لا تُتْعِبْ نفسَك معالي الوزير، ولا يتعبنّ أحد نفسَه من أقرانك. الحلُّ في لبنان بِيَدِ اللبنانيين، بِيَدِ الغالبية الصامتة التي خَرَجَتْ إلى الشوارع مُطالِبَةً بدولةٍ فُقئت أعين بعضها وكُسرتْ أرجل بعضِها وسُجن بعضُها وقُتل بعضها. عندما يلُوح أملُ الدولةِ مُجدّداً بسواعد وإرادة هؤلاء اذْهَبْ وتَوَسَّطْ... إنما نستحلفك بالله أن تشرح لنا كيف تتوسّط اليوم مع «لا دولة»؟ أَعانَكم الله، وأعانَ قبْلكم أهلَ لبنان الذي سيبقى جميلاً مهما تَكاثَرَتْ عبادةُ الأصنامِ.