البيوك السوداء... والعجيري

تصغير
تكبير

في سيارة أبي «البيوك» السوداء ذات الفرش الجلدي الأبيض الوثير الأنيق، والباب المزدان بقطعة طويلة من الخشب المحفور بنقشة جميلة، في هذه السيارة وعمري نحو سبع أو ثماني سنوات سمعت للمرة الأولى عن الفلكي الفذ صالح العجيري.

لا أذكر السبب، هل كان دخول شهر رمضان ؟ أم العيد أم الطقس ؟ لكن الأكيد أنني سمعت أبي -شافاه الله وعافاه- يتحدث عنه باهتمام وثقة، وشرح لي بتبسيط يناسب عمري شيئاً عن هذا الرجل الذي لم يكن بعد قد نال الدكتوراه الفخرية، ولكنه بالنسبة لنا أهم من حائزي جوائز نوبل أجمعين.

رافقتني سيرة العجيري في طفولتي (على قدي)، وكبرت معي شيئا فشيئا، وكلما ازددت فهما وادراكا ازددت اعجابا وتقديرا وتبجيلا لهذا الرجل الذي طور نفسه بنفسه وعلم نفسه بنفسه في أزمنة صعبة لم يكن العلم فيها متاحا، فجاب الصحارى والسواحل والبحار والمدن والدول بحثا عن معلومة، او دحضا لمعلومة... وكلما كَبِرتُ كَبُرَ معي مقام هذا الرجل الذي كان قادرا على ابهاري في كل المراحل والأزمنة.

الراحل ولد مع ولادة سور الكويت الثالث، ورافق نهايات الدولة القديمة، في زمن ما قبل الكهرباء والماء والنفط، ثم رافق كل مراحل بناء الدولة الحديثة، منذ هدم السور الذي بني مع ولادته الى هذا اليوم الحزين.

كتب الله له أن يعيش سنوات طويلة فاقت المئة عام بعام على الأقل، وكان علمه الذي ننتفع به جدولاً عذباً يروينا معرفة كلما باغتنا عطش الحيرة أو داهمنا جفاف الجهل.

الراحل صالح العجيري هو الرجل الذي أحبه كل الكويتيين، وكل من أقام على أرض الكويت، وتمدد حبه خليجياً وعربياً، ومع وفاته وجدنا حتى الغربيين ينعونه ويعرفون مآثره... حتى وصفه السفير الألماني بنجمة في السماء.

الراحل صالح العجيري هو الرجل الذي اتفق عليه كل المختلفين واجتمع على حبه كل من فرقتهم المواقف والأحداث، ووثق فيه الجميع، فاستحق بجدارة أن يكون رمزاً وطنياً نادراً ما يحظى وطنٌ بمثله.

لا أنسى ذلك اليوم البعيد عندما (أفطرونا) بقرار حكومي ضُحى آخر يوم من أيام رمضان المبارك، زرنا عمتي الكبرى رحمها الله وطيب ثراها بعدما صار اليوم عيداً... رحبت بنا واستقبلتنا بحفاوة، ولكنها كانت صائمة... لقد كانت تثق بالعجيري أكثر من ثقتها بالحكومة، وتطيع رأيه وهو صاحب العلم أكثر من رأي الحكومة الذي ثبت بالفعل خطؤه وثبت صواب رأي العجيري.

صالح العجيري هو الرجل الذي عبّر بصدق وعفوية ومن دون أي افتعال عن حقيقة الكويت، فاستحق بجدارة أن ينال كل هذا الحب.

رحمه الله وغفر له وأسكنه فسيح جناته. وعظم الله أجرك يا كويت.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي